التمكن من السفر - ویکی فقه 


التمكن من السفر


ولا خلاف ولا إشكال في اشتراطها، [۱] [۲]بل ادّعى المحقّق النراقي   أنّ اشتراطها مجمع عليه محقّقاً ومحكيّاً. [۳]
والمقصود بها أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً بحيث لا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الميقات أو إلى الأماكن المقدّسة.
واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، [۴] فإنّ الاستطاعة السبيلية لا تصدق إلّا مع تخلية السرب   و الأمان   من الخطر في الطريق.
مضافاً إلى النصوص المفسّرة للآية الشريفة المتضمّنة لتخلية السرب، منها:
صحيحة هشام بن سالم حيث قال الإمام الصادق عليه السلام   في تفسير الآية: «من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى سربه، له زاد وراحلة». [۵]
وعلى هذا إذا كان في الطريق مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الميقات أو إلى تمام الأعمال لم يجب الحجّ؛ لفقد هذا الشرط.
وكذا إذا كان الطريق غير مأمون ومخوفاً بأن يخاف على نفسه أو بدنه، أو عرضه أو ماله، فلا يجب الحجّ أيضاً.
واختلف في المقام في أنّ الحكم بعدم الوجوب هل هو حكم ظاهري أم واقعي؟
ذهب السيّد الحكيم   إلى أنّه حكم ظاهري، بينما ذهب السيّد الخوئي إلى أنّه حكم واقعي.
قال السيّد الحكيم: «الحكم هنا ظاهري، فإنّ موضوع الحكم الواقعي بعدم الوجوب- لعدم الاستطاعة- هو عدم تخلية السرب واقعاً، فمع الشكّ لا يحرز الحكم الواقعي   بل يكون الحكم بعدم الوجوب ظاهرياً. نعم، مع احتمال تلف النفس؛ لمّا كان يحرم السفر يكون الحكم الظاهري بحرمة السفر موضوعاً للحكم الواقعي بانتفاء الاستطاعة و انتفاء وجوب الحجّ، لكن لا لأجل انتفاء تخلية السرب بل للحرمة الظاهرية المانعة من القدرة على السفر، أمّا مع احتمال تلف المال أو غيره ممّا لا يكون الإقدام معه حراماً فالاصول والقواعد العقلائية- المرخّصة في ترك السفر- تكون من قبيل الحجّة على انتفاء تخلية السرب، ولأجل ذلك يكون المدار في عدم وجوب السفر وجود الحجّة على عدم وجوبه من أصل عقلائي أو أمارة كذلك تقتضي الترخيص في تركه، وعليه لو انكشف الخلاف انكشف كونه مستطيعاً واقعاً». [۶]
إلّا أنّه قال بعد ذلك: «لكن يمكن أن يقال: إنّ الحرمة الآتية من جهة جهل المكلّف وغلطه لا تكون نافيةً للاستطاعة... نظير ما لو ملك الزاد والراحلة   واعتقد أنّهما لغيره، فإنّ حرمة التصرّف... من جهة الجهل لا تمنع من تحقّق الاستطاعة و استقرار   الوجوب عليه». [۷]
وقال السيّد الخوئي   في تقرير ما اختاره من كون الحكم هنا حكماً واقعياً بأنّ «خوف الضرر بنفسه- كما قد يستفاد من بعض الروايات- طريق عقلائي إلى الضرر، ولا يلزم أن يكون الضرر معلوماً جزماً بل جرت سيرة العقلاء على الاجتناب عن محتمل الضرر، فالحكم في مورد خوف الضرر مرفوع واقعاً حتى لو انكشف الخلاف وتبيّن عدم وجود المانع في الطريق كما هو الحال في غير مورد الحجّ كمورد التيمّم، فإنّه لو خاف من استعمال الماء وتيمّم وصلّى ثمّ انكشف الخلاف بعد الوقت صحّ تيمّمه وصلاته واقعاً». [۸]
وتظهر ثمرة الاختلاف في صورة انكشاف الخلاف وأنّ الطريق كان مأموناً واقعاً فبناءً على كونه حكماً ظاهريّاً يتبيّن أنّ الاستطاعة كانت موجودةً واقعاً، ويترتّب‌ على ذلك وجوب حفظها إلى السنة المقبلة، وأمّا بناءً على كونه حكماً واقعيّاً يظهر أنّ الاستطاعة لم تكن موجودة من الأوّل فلا وجوب كي يجب حفظها إلى العام المقبل.
ثمّ إنّهم تعرّضوا لعدّة مسائل تتعلّق بالمقام:
منها: أنّه قد يكون جميع الطرق مخوفة إلّا أنّه يمكنه الوصول إلى الحجّ بالدوران في البلاد، مثل ما إذا كان من أهل العراق ولا يمكنه إلّا أن يمشي إلى كرمان ، ومنه إلى خراسان ، ومنه إلى بخارى، ومنه إلى الهند ، ومنه إلى بوشهر ، ومنه إلى جدّة مثلًا، ومنه إلى المدينة ، ومنها إلى مكّة ، فذهب بعض الفقهاء إلى عدم وجوب الحجّ حينئذٍ؛ وذلك لأنّه يصدق أنّه لا يكون مخلّى السرب، ولانصراف استطاعة السبيل إلى سلوك الطريق العادي المتعارف، فلا تشمل الآية الشريفة لمن استطاع إليه بسلوك الطريق غير المتعارف. [۹] [۱۰] [۱۱]
واورد على ذلك بأنّ دعوى الانصراف إلى السير العادي أو دعوى عدم صدق تخلية السرب عرفاً ممّا لا شاهد عليه. [۱۲]
وذهب السيّد الخوئي إلى التفصيل بين ما إذا ترتّب ضرر أو حرج على سلوك الطريق غير المتعارف فلا يجب الحجّ، وبين ما إذا لم يترتّب ضرر ولا حرج عليه فيجب الحجّ؛ إذ لم يقيّد الوجوب بما إذا كان الطريق متعارفاً، وأمّا دعوى الانصراف إليه أو دعوى عدم صدق تخلية السرب عرفاً فلا شاهد عليها كما تقدّم. [۱۳] [۱۴]
ومنها: أنّه قد يكون في الطريق عدوّ لا يندفع إلّا بالمال، ففي وجوب بذل المال ووجوب الحجّ حينئذٍ أقوال:
القول الأوّل: عدم الوجوب، وهو مختار الشيخ الطوسي   [۱۵] وغيره.
واستدلّ له:
أوّلًا: بأنّ الشرط- وهو تخلية السرب- منتفٍ في المقام.
وثانياً: بأنّ المأخوذ على هذا الوجه ظلم لا ينبغي الإعانة عليه.
وثالثاً: بأنّ من خاف من أخذ المال قهراً لا يجب عليه الحجّ وإن قلّ المال، وهذا في معناه.
ولكن اورد على الأوّل بأنّ الشرط وهو تخلية السرب حاصل بالقدرة على اندفاع العدوّ ببذل المال.
وعلى الثاني بأنّ المدفوع على هذا الوجه لم يقصد به المعاونة على الظلم بل التوصّل إلى فعل الواجب وهو راجح شرعاً لا مرجوح كما في دفع المال إلى الظالم لاستنقاذ مسلم من  الهلاك .
وعلى الثالث، أوّلًا: بمنع السقوط في الأصل ؛ لانتفاء الدليل عليه.
وثانياً: بمنع المساواة، فإنّ بذل المال بالاختيار على هذا الوجه ليس فيه دنوّة ولا مشقّة زائدة، بخلاف أخذه قهراً، فإنّ فيه غضاضة تامّة ومشقّة زائدة على أهل المروءة ، فلا يلزم من عدم وجوب تحمّله عدم وجوب البذل مع الاختيار . [۱۶] [۱۷]
القول الثاني: الوجوب مع الإمكان ، استحسنه المحقّق الحلّي   في الشرائع حيث قال: «ولو قيل: يجب التحمّل مع المكنة كان حسناً»، [۱۸] واختاره الشهيد الثاني   وصاحب المدارك وصاحب الحدائق أيضاً، بل هو المنسوب إلى جمهور أصحابنا المتأخّرين. [۱۹] [۲۰] [۲۱]
والدليل عليه صدق تخلية السرب حينئذٍ.
القول الثالث: التفصيل بين ما إذا كان بذل المال مضرّاً بحاله ومجحفاً به فلا يجب بذل المال حينئذٍ ويسقط الحجّ، وبين ما إذا كان غير مضرّ بحاله- كما إذا كان المال يسيراً- فيجب البذل، وهو مختار الفاضلين في المعتبر و المنتهى . [۲۲] [۲۳]
ولعلّ وجهه حكومة دليل نفي الضرر على الأحكام كلّها.
ولكن ذهب السيّد الحكيم إلى أنّه لا مجال للتمسّك بقاعدة نفي الضرر هنا؛ لأنّ أدلّة وجوب الحجّ من قبيل المخصّص لها، فيؤخذ بإطلاق أدلّة وجوب الحجّ، فيجب بذل المال ولو كان مضرّاً بحاله. نعم، إذا كان موجباً للحرج فلا يجب؛ لدليل نفي الحرج. [۲۴]
 بينما ذهب السيّد الخوئي إلى جريان دليل لا ضرر في الحجّ ونحوه من الأحكام الضررية إذا كان الضرر اللازم أزيد ممّا يقتضيه طبع الحجّ، وعليه إذا كان الضرر كثيراً ومعتدّاً به فلا يجب بذل المال كما لا يجب إذا كان حرجيّاً. نعم، إذا كان الضرر يسيراً أو قد لا يعدّ عرفاً من الضرر في بعض صوره- كبذل خمسة دنانير بالنسبة إلى خمسمائة دينار التي يصرفها في الحجّ- فلا يبعد القول بوجوب الحجّ ولزوم تحمّل ذلك الضرر اليسير؛ لصدق تخلية السرب على ذلك. [۲۵]
ومنها: أنّه قد يتوقّف الحجّ على قتال العدوّ، فذهب بعض الفقهاء إلى عدم وجوب الحجّ حينئذٍ حتى مع ظنّ الغلبة عليه والسلامة. [۲۶]
واستدلّ بصدق عدم تخلية السرب مع توقّف الحجّ على القتال. [۲۷]
ولكن ذهب بعض آخر إلى التفصيل في المسألة، فإنّه قال: «إنّه قد يفرض كونه متمكّناً من قتال العدوّ ودفعه من دون استلزام ضرر أو حرج، ويطمئنّ بالغلبة والسلامة، فلا ينبغي الريب في عدم سقوط وجوب الحجّ عنه؛ لصدق تخلية السرب، ومجرّد وجود شخص في الطريق مانع عن الحجّ يمكن دفعه بسهولة لا يوجب صدق عدم تخلية السرب.
وقد يفرض كون السفر خطراً بحيث يخاف على نفسه أو على ما يتعلّق به فلا إشكال في سقوط الحج؛ لصدق عدم تخلية السرب وعدم الأمان في الطريق وإن ظنّ الغلبة والسلامة؛ لعدم حصول الأمان بالفعل، فيصدق عدم تخلية السرب، ومجرّد الظنّ بالغلبة والسلامة لا يوجب كون الطريق مأموناً». [۲۸] [۲۹]
ثمّ إنّ الفقهاء قد تعرّضوا في الاستطاعة لعدّة مسائل اخرى وهي كما يلي:
۱- الشكّ في الاستطاعة:
الشكّ في الاستطاعة يتصوّر على نحوين:
الأوّل: ما إذا شكّ في وجدانه لمقدار مصارف الحجّ، بمعنى أنّه يعلم أنّ مصارف الحجّ خمسمائة دينار- مثلًا- ولكن لا يعلم بلوغ ماله هذا المقدار.
الثاني: ما إذا علم مقدار المال ولكن لا يعلم مقدار نفقة الحجّ، فيشكّ في أنّ ما عنده يكفيه للحجّ أم لا؟ وفي المسألة قولان:
الأوّل: عدم وجوب الفحص في كلتا الصورتين؛ [۳۰] [۳۱] لأنّ الشبهة في المقام موضوعية ولا يجب الفحص في الشبهات الموضوعية كلّية؛ لإطلاق أدلّة الاصول الشرعية  كاستصحاب العدم و أصالة الحلّ   ونحوهما ممّا يقتضي نفي التكليف، وكذا  البراءة العقليّة بناءً على عمومها؛ للشكّ في التكليف إذا كان بتقصير المكلّف بأن يكون المراد من عدم البيان- المأخوذ موضوعاً لقاعدة  قبح العقاب بلا بيان - ما هو أعمّ ممّا كان بترك الفحص وطلب البيان.
نعم، بناءً على أنّ المراد منه عدم البيان لا من قبل المكلّف لم تجرِ القاعدة إذا كان عدم البيان لعدم الفحص، لكن في الاصول الشرعية كفاية في اقتضاء عدم وجوب الفحص في المقام ونحوه كباب الشكّ في تحقّق النصاب في الزكاة والشكّ في تحقّق الربح في الخمس. [۳۲] [۳۳]
القول الثاني: وجوب الفحص، وهو مختار المحقّق النائيني   وجماعة من الفقهاء، [۳۴] وذهب إليه السيّد اليزدي   وبعض الفقهاء على سبيل الاحتياط الوجوبي. [۳۵] [۳۶]
واستدلّ له بوجوه:
الأوّل: أنّ الفحص في المقام يكون نظير المراجعة إلى دفتر الحساب أو النظر إلى الافق لتبيّن الفجر ونحو ذلك، وأمثال ذلك من الفحص لا يعدّ من الفحص عرفاً، ولا مجال للرجوع إلى الأصل في أمثال ذلك.
وأورد عليه السيّد الخوئي بأنّه لا يهمّنا صدق عنوان الفحص وعدمه؛ لأنّ الحكم لم يعلّق على عنوان الفحص ولم يؤخذ الفحص في حكم من الأحكام حتى يقال:
إنّ هذا المقدار من الفحص ليس بفحص عرفاً أو هو فحص عرفاً، وإنّما المهمّ صدق عنوان العالم والجاهل ولا واسطة بينهما، فإن كان عالماً لا يجري في حقّه الأصل، بخلاف ما إذا كان جاهلًا.
نعم، إنّما يجب الفحص في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي   والشبهات الحكمية، وفي ما إذا ثبت وجوبه بدليل خاصّ في الشبهات الموضوعية.
وبالجملة: متى صدق عنوان الجاهل لا يجب عليه الفحص ويجوز له الرجوع إلى الأصل حتى في مثل مراجعة الدفتر والنظر إلى الفجر؛ لإطلاق أدلّة الاصول.
نعم، قد لا يصدق الجاهل في بعض موارد الفحص اليسير كالذي يتمكّن من النظر إلى الافق بفتح عينيه ليرى الفجر، فلا يجري استصحاب بقاء الليل. [۳۷]
الوجه الثاني: أنّه لو لم يفحص للزمت المخالفة القطعية كثيراً.
واورد عليه:
أوّلًا: بالنقض بموارد الشكّ في الطهارة والنجاسة، فإنّه يعلم بمخالفة الاصول الجارية في موارده للواقع كثيراً.
وثانياً: بالحلّ، وهو أنّ المكلّف لا يعلم بالنسبة إلى نفسه بوقوعه في الخلاف وإلّا لكان من العلم الإجمالي   الجاري في التدريجيّات ويجب الفحص حينئذٍ.
نعم، قد يعلم ذلك بالنسبة إلى سائر المكلّفين، بمعنى أنّه يعلم بأنّ الاصول التي يجريها الناس عند شكّهم في الاستطاعة- مثلًا- كثيرٌ منها مخالفة للواقع، ولكن هذا العلم لا أثر له بالنسبة إلى نفسه؛ لأنّ تحقّق المخالفة من سائر الناس لا ارتباط له به أصلًا. [۳۸]
الوجه الثالث: التمسّك برواية الصائغ الواردة في الزكاة، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام : إنّي كنت في قرية من قرى خراسان يقال لها: بخارى، فرأيت فيها دراهم تعمل ثلث فضّة، وثلث مسّ، وثلث رصاص، وكانت تجوز عندهم... فقلت: أ رأيت إن حال عليها الحول وهي عندي وفيها ما يجب عليّ فيه الزكاة، ازكّيها؟
قال: «نعم، إنّما هو مالك»، قلت: فإن أخرجتها إلى بلدة لا ينفق فيها مثلها فبقيت عندي حتى حال عليها الحول، ازكّيها؟ قال: «إن كنت تعرف أنّ فيها من الفضّة الخالصة ما يجب عليك فيه الزكاة فزكِّ ما كان لك فيها من الفضّة الخالصة (من فضّة) [۳۹] ودع ما سوى ذلك من الخبيث»، قلت: وإن كنت لا أعلم ما فيها من الفضّة الخالصة إلّا أنّي أعلم أنّ فيها ما يجب فيه الزكاة؟ قال: «فاسبكها حتى تخلص الفضّة ويحترق الخبيث، ثمّ تزكّي ما خلص من الفضّة لسنة واحدة». [۴۰]فإنّ  الأمر بالتخليص ليس إلّا لاعتبار الفحص وإلّا فلا موجب له.
واورد عليه:
أوّلًا: بأنّ الخبر ضعيف السند بزيد الصائغ؛ إذ هو مجهول في كتب الرجال، وفي محمّد بن عبد اللَّه بن هلال   كلام. [۴۱]
وقد يدّعى أنّ ضعف سنده منجبر بعمل الأصحاب. [۴۲]
لكن اورد على هذه الدعوى بأنّها ممنوعة كبرىً وصغرى، أمّا الكبرى فالكلام فيها في علم الأصول ، [۴۳] وأمّا الصغرى فلأنّه لا يعلم استنادهم إلى هذه الرواية.
وثانياً: أنّ الخبر ضعيف الدلالة بأنّه لو كانت الدراهم ممتزجة من ثلاثة أشياء فيتمكّن المكلّف من إعطاء الزكاة بنسبة المال الموجود في الدراهم ولا حاجة إلى إعمال هذه العمليّة من سبك الدراهم وتخليصها. والظاهر أنّ الرواية في مقام بيان تعليم كيفية التخليص وليست في مقام بيان وجوب الفحص. [۴۴]
۲- عدم وجوب تحصيل الاستطاعة:
إنّ ظاهر أدلّة وجوب الحجّ هو أنّه يجب على المكلّف متى حصلت له الاستطاعة بالفعل، فالاستطاعة شرط لوجوب الحجّ، وشرط الوجوب هو ما اخذ مفروض الوجود، فلا يترتّب الوجوب إلّا بعد حصول الشرط، وعليه فلا يجب على المكلّف أن يحصّل الاستطاعة وإن كان قادراً على أن يحصّل المال باختياره، فلا يجب على ذي الصنعة والحرفة- مثلًا- أن يعمل في صنعته وحرفته حتى يجد المال ويحجّ به، وكذا إذا وهبه أحد مالًا يستطيع به لو قبله أو طلب منه إجارة نفسه بما يصير به مستطيعاً، فلا يجب عليه القبول ولا يكون به مستطيعاً.
ولكن قد قيل [۴۵] [۴۶] بوجوب القبول لوجهين:
الأوّل: صدق الاستطاعة العرفية حينئذٍ.
واجيب عنه بأنّ الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحجّ ليست الاستطاعة العرفيّة ولا العقليّة، وإنّما هي استطاعة خاصّة مفسّرة في الروايات بملكيّة الزاد والراحلة وتخلية السرب، وهي تحصل بأحد أمرين: إمّا واجديّته لما يحجّ به أو بالبذل، وكلاهما غير حاصل في المقام. [۴۷]
الثاني: أنّ الإنسان يملك منافع نفسه كما يملك منافع ما يملكه من الأعيان كالعقار والدوابّ، فيكون واجداً للمال ومستطيعاً قبل الإجارة، ومن المعلوم أنّه لا يعتبر في الاستطاعة وجود الأثمان والنقود أو وجود عين مال مخصوص، بل المعتبر وجود ما يمكن صرفه في سبيل الحجّ.
واجيب عنه بأنّ الإنسان وإن كان يملك منافع نفسه ولكن لا بالملكيّة الاعتبارية، نظير ملكيّته للعقار والدوابّ، ولا يصدق عليه أنّه ذو مال باعتبار قدرته على منافع نفسه وقدرته على أعماله؛ ولذا تسالم الفقهاء على أنّه لو حبس أحد حرّاً لا يضمن منافعه باعتبار تفويته هذه المنافع.
والذي يدلّ على ذلك أنّ الإنسان لو كان مالكاً لمنافع نفسه بالملكية الاعتبارية لكان واجداً لما يحجّ به، فلا حاجة إلى طلب الاستئجار منه، بل يجب أوّلًا تعريض نفسه للإيجار كما إذا كان مالكاً للدار والدوابّ، ولا يظنّ أنّ أحداً يلتزم بذلك. [۴۸] [۴۹]
ثمّ إنّه لو وقعت الإجارة بينه وبين المستأجر على ذلك وحصل الإيجاب والقبول ملك المكلّف الأجرة ، وتحقّق له بذلك شرط الوجوب وهو الاستطاعة، ووجب عليه الحجّ وأجزأ عن حجّة الإسلام .
حكم الكسوب القادر على تحصيل الزاد:
إذا لم يكن الزاد عند المكلّف فعلًا لا عيناً ولا قيمةً ولكن كان قادراً على تحصيله في الطريق- كالحلّاق- لم يجب الحجّ عليه.
واستدلّ على ذلك بأنّ الاستطاعة قد فسّرت بأنّ له الزاد والراحلة ونحو ذلك، وظاهره أن يكون مستولياً عليه بالفعل بملكٍ ونحوه، ولا يصدق أنّ له الزاد والراحلة بمجرّد قدرته على اكتساب الزاد في الطريق. [۵۰] وبذلك يورد على المحقّق النراقي   حيث ذهب إلى وجوب الحجّ حينئذٍ. [۵۱] [۵۲]
۳- وظيفة الجاهل بالاستطاعة:
لو وصل مال المكلّف إلى حدّ الاستطاعة وكان جاهلًا أو غافلًا عن ذلك ثمّ تذكّر بعد تلفه، فهل استقرّ الحجّ عليه أم لا؟ في المسألة أقوال ثلاثة:
الأوّل: ما اختاره بعض الفقهاء من استقرار الحجّ عليه؛ لحصول الاستطاعة في الواقع وهي الشرط في ثبوت التكليف، والعلم شرط في التنجّز لا في أصل التكليف، وعدم التمكّن من جهة الجهل أو الغفلة لا ينافي الوجوب الواقعي. نعم، هو معذور في ترك ما وجب عليه، ولمّا كان استقرار الحجّ تابعاً للوجوب الواقعي وعدم الإتيان بالحجّ، فيحكم بثبوت الاستقرار في كلتا الحالتين. [۵۳]
وعلّق على ذلك بعضهم بأنّه إذا كان التلف بلا تقصير فلا بدّ من فرض تحقّق التلف بعد مضيّ الموسم؛ لأنّ التلف قبله كاشف عن عدم الاستطاعة، وإذا كان بتقصير فلا بدّ من تعميمه لما إذا كان قبل خروج الرفقة أيضاً. [۵۴] [۵۵] [۵۶]
الثاني: ما حكاه السيّد اليزدي عن المحقّق القمّي   من عدم الاستقرار؛ نظراً إلى أنّه ما دام كونه جاهلًا أو غافلًا لا يكون التكليف متوجّهاً إليه، وبعد ارتفاعهما لا يكون عنده ما يكفيه للحجّ على الفرض، فلم يكن الحجّ مستقرّاً عليه. [۵۷]
قال السيّد الحكيم: «وكأنّ الوجه الذي دعا القمّي إلى نفي الاستطاعة ما تضمّن من النصوص، من أنّ من ترك الحجّ ولم يكن له شغل يعذره اللَّه به فقد ترك فريضةً من فرائض الإسلام، ممّا يدلّ على أنّ وجود العذر نافٍ للاستطاعة».
ثمّ أورد عليه قائلًا: «وفيه: أنّ المفهوم من النصوص العذر الواقعي الذي لا يشمل قصور المكلّف من جهة غلطه وجهله و اشتباهه ، بل يختصّ بالأمر الواقعي الذي يكون معلوماً تارةً ومجهولًا اخرى». [۵۸]
القول الثالث: ما ذهب إليه السيّد الخوئي من التفصيل بين ما إذا كانت الغفلة مستندة إلى تقصير منه كترك التعلّم، وبين ما إذا كانت غير مستندة إليه ككثرة الاشتغال و الابتلاء ، فعلى الأوّل يستقرّ عليه الحجّ دون الثاني، وكذا في الجهل بين ما إذا كان بسيطاً فيستقرّ، وبين ما إذا كان مركّباً فلا.
ودليل ذلك، أمّا التفصيل في الغفلة فلأنّ مقتضى حديث الرفع في غير «ما لا يعلمون» هو الرفع الواقعي، ومرجعه إلى التخصيص في الأدلّة الأوّلية وعدم ثبوت الحكم في حقّه واقعاً، وعليه ففي فرض الغفلة لا يجب عليه الحجّ؛ لعدم ثبوته في حقّه، وبعد رفعها لا مال له بالفعل حتى يجب عليه الحجّ غاية الأمر اختصاص الحديث بما إذا كانت الغفلة غير مستندة إلى التقصير، وأمّا مع استنادها إليه فلا مخصّص في مقابل الأدلّة الأوّلية، فالحجّ واجب عليه ومستقرّ.
وأمّا التفصيل في الجاهل فلأنّ الجاهل بالجهل البسيط وإن لم يجب عليه الحجّ بمقتضى حديث الرفع إلّا أنّ هذا الحكم حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحجّ عليه واقعاً، فإذا انكشف الخلاف يجب عليه الإتيان بالحجّ لاستقراره عليه؛ لأنّ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في الموضوع وإنّما الموضوع وجود ما يحجّ به واقعاً، والجاهل بالجهل البسيط يتمكّن من إتيان الحجّ ولو احتياطاً، وأمّا الجاهل بالجهل المركّب فلا يتوجّه إليه التكليف واقعاً؛ لعدم تمكّنه من الامتثال ولو على نحو الاحتياط ، والأحكام وإن كانت مشتركة بين العالم والجاهل ولكن بالجهل البسيط الذي يتمكّن معه من الامتثال، لا الجهل المركّب والجزم بالعدم الذي لا يتمكّن معه من الامتثال أبداً فهو كالغفلة. [۵۹] [۶۰]
واورد عليه بأنّ هذا التفصيل مبتنٍ على القول بانحلال الأحكام واختصاص كلّ مكلّف بخطاب خاصّ ولكن هذه النظرية غير تامّة، والصحيح أنّ الخطابات العامّة المتضمّنة للتكاليف والأحكام بنحو العموم لا تنحلّ إلى خطابات متكثّرة حسب تكثّر أفراد المكلّفين وتعدّد آحادهم، بل إنّما هي خطاب واحد متضمّن لحكم عامّ وتكليف كلّي ومقتضاه ثبوت المقتضى بالإضافة إلى الجميع، غاية الأمر كون بعض الامور عذراً بالنسبة إلى المخالفة وموجباً لعدم ترتّب استحقاق العقوبة على عدم الامتثال فيها كالعجز والجهل والغفلة في الجملة، ولا ملازمة بين كونها عذراً وبين عدم ثبوت التكليف الذي يتضمّنه الخطاب العامّ، فقوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» [۶۱] يدلّ على ثبوت هذا التكليف وتحقّق هذا الدين في جميع موارد تحقّق الاستطاعة الواقعية.
وعليه فالتكليف ثابت بنحو العموم، فإذا انكشف للجاهل أنّه مستطيع وللغافل أنّه كان قد وجب عليه الحجّ ولم يأت به بعدُ، فاللازم الحكم بالاستقرار ولزوم الإتيان به ولو بنحو التسكّع، ولا فرق من هذه الجهة بين فرضي الغفلة، وكذا فرضي الجهل وإن كان بينهما فرق أحياناً من جهة المعذورية وعدمها، وعليه لا مجال لدعوى خروج الجاهل بالجهل المركّب عن الأحكام المشتركة بين العالم والجاهل. [۶۲]


المراجع [تعديل]

۱. العروة الوثقى، ج۴، ص۴۱۶، م ۶۳.    
۲. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۷۰.    
۳. مستند الشيعة، ج۱۱، ص۶۰.    
۴. آل عمران/سورة ۳، الآية ۹۷.    
۵. الوسائل، ج۱۱، ص۳۵، ب ۸ من وجوب الحجّ، ح ۷.    
۶. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۷۰- ۱۷۱.    
۷. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۷۱.    
۸. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۱۷۱.     
۹. مستند الشيعة، ج۱۱، ص۶۱.    
۱۰. العروة الوثقى، ج۴، ص۴۱۶- ۴۱۷، م ۶۳.    
۱۱. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۷۱.    
۱۲. معتمد العروة (الحج)، ج۱، ص۱۷۲.     
۱۳. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۱۷۱- ۱۷۲.    
۱۴. العروة الوثقى، ج۴، ص۴۱۷، م ۶۳، تعليقة السيّد الخوئي.    
۱۵. المبسوط، ج۱، ص۳۰۱.     
۱۶. المدارك، ج۷، ص۶۲- ۶۳.    
۱۷. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۸۸.    
۱۸. الشرائع، ج۱، ص۱۶۶.     
۱۹. المسالك، ج۲، ص۱۴۱.    
۲۰. المدارك، ج۷، ص۶۴.    
۲۱. الحدائق، ج۱۴، ص۱۴۲.    
۲۲. المعتبر، ج۲، ص۷۵۵.    
۲۳. المنتهى، ج۲، ص۶۵۶.     
۲۴. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۸۸.    
۲۵. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۱۸۹.    
۲۶. العروة الوثقى، ج۴، ص۴۳۱، م ۶۸.    
۲۷. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۸۹.    
۲۸. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۱۸۹.     
۲۹. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۸۹.    
۳۰. العروة الوثقى، ج۴، ص۳۸۳، م ۲۱، تعليقة السيّد الخوئي.    
۳۱. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۹۹.     
۳۲. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۰۳.    
۳۳. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۹۹.     
۳۴. العروة الوثقى، ج۴، ص۳۸۳، م ۲۱، تعليقة النائيني والبروجردي والأصفهاني.    
۳۵. العروة الوثقى، ج۴، ص۳۸۲- ۳۸۳، م ۲۱.    
۳۶. تحرير الوسيلة، ج۱، ص۳۷۵، م ۲۰.    
۳۷. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص ۹۹.    
۳۸. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۱۰۰.     
۳۹. الكافي، ج۳، ص۵۱۷، ح ۹.     
۴۰. الوسائل، ج۹، ص۱۵۳- ۱۵۴، ب ۷ من زكاة الذهب والفضّة، ح ۱.    
۴۱. مستند العروة (الزكاة)، ج۱۳، ص۲۹۲.     
۴۲. جواهر الكلام، ج۱۵، ص۱۹۵.    
۴۳. مصباح الاصول، ج۲، ص۲۴۰- ۲۴۱.     
۴۴. المعتمد في شرح المناسك، ج۳، ص۶۴.
۴۵. مستند الشيعة، ج۱۱، ص۵۴.    
۴۶. مستند الشيعة، ج۱۱، ص۵۸.    
۴۷. المعتمد في شرح المناسك، ج۳، ص۵۸.
۴۸. المعتمد في شرح المناسك، ج۳، ص۵۸.
۴۹. العروة الوثقى، ج۴، ص۴۱۱، م ۵۴، تعليقة العراقي.    
۵۰. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص۷۰.    
۵۱. مستند الشيعة، ج۱۱، ص۲۷.    
۵۲. مستند الشيعة، ج۱۱، ص۵۷.    
۵۳. العروة الوثقى، ج۴، ص۳۸۶- ۳۸۷، م ۲۵.    
۵۴. العروة الوثقى، ج۴، ص۳۸۷، م ۲۵، تعليقة السيّد الخميني.    
۵۵. تحرير الوسيلة، ج۱، ص۳۷۶، م ۲۴.     
۵۶. تفصيل الشريعة (الحجّ)، ج۱، ص۱۵۴.
۵۷. العروة الوثقى، ج۴، ص۳۸۷، م ۲۵.    
۵۸. مستمسك العروة، ج۱۰، ص۱۱۱.    
۵۹. معتمد العروة (الحجّ)، ج۱، ص ۱۰۶-۱۰۷.    
۶۰. العروة الوثقى، ج۴، ص۳۸۶- ۳۸۷، م ۲۵، تعليقة الخوئي.    
۶۱. آل عمران/سورة ۳، الآية ۹۷.    
۶۲. تفصيل الشريعة (الحجّ)، ج۱، ص۱۵۵- ۱۵۶.


المصدر [تعديل]

الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۵۱۲- ۵۲۲.   




أدوات خاصة
التصفح
جعبه‌ابزار