ثبوت الزنا بالإقرار
يثبت
الزنا على كلّ من الرجل والمرأة بالإقرار ولابد من
بلوغ المقر، وكماله، واختياره، وحريته، وتكرار الإقرار أربعا؛ وهل يشترط اختلاف مجالس
الإقرار ؟ أشبهه: أنه لا يشترط؛ ولو أقر
بحد ولم يبينه ضرب حتى ينهى عن نفسه؛ ولو أقر بما يوجب
الرجم ثم أنكر سقط عنه، ولا يسقط غيره؛ ولو أقر ثم تاب كان
الإمام مجزى في الإقامة، رجما كان أو غيره.
الحكم الإجمالي [تعديل]
ويثبت
الزنا على كلّ من الرجل والمرأة بالإقرار منهما به صريحاً، بحيث لا يحتمل الخلاف، كما في قضية
ماعز بن مالك وغيرها، فإنّه لم يقبل من الإقرار حتى صرّح بكونه قد أدخل كالميل في المكحلة والرشاء في البئر
[۱] [۲].
وبالبيّنة بلا خلاف؛ لعموم الأدلّة، وخصوص ما يأتي من المستفيضة.
بلوغ المقر وكماله واختياره وحريته [تعديل]
ولا بدّ من
بلوغ المقر، وكماله بكمال عقله وقصده واختياره، وحرّيته بلا خلاف كما في سائر الأقارير، بل اعتبارها هنا أولى.
تكرار الإقرار أربعا [تعديل]
وتكرار الإقرار أربعاً للمعتبرة المستفيضة، منها: «ولا يرجم الزاني حتى يقرّ أربع مرّات»
[۳] [۴] [۵] ولا خلاف فيه، بل في
المسالك [۶] وغيره
[۷] [۸] [۹]: أنّ عليه الاتّفاق إلاّ من ظاهر
العماني فاكتفى بالواحد؛ للصحيح: «من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من
حدود الله تعالى مرّة واحدة، حرّا كان أو عبداً، حرّة كانت أو أمة، فعلى الإمام أن يقيم الحدّ على الذي أقرّ به على نفسه كائناً من كان، إلاّ الزاني المحصن، فإنّه لا يرجم حتى يشهد عليه أربعة شهود»
[۱۰] [۱۱] [۱۲].
وحُمِل تارةً على غير حدّ الزاني جمعاً، وأُخرى على
التقيّة ، وأُخرى على غير ذلك
[۱۳] [۱۴] [۱۵].
وكيف كان، فطرحه متعيّن جدّاً؛ لعدم مكافأته لما مضى، مع شذوذه قطعاً بتضمّنه عدم اعتبار الحرّية في المقرّ، وفرقه بين الزاني المحصن وغيره بعدم قبول الإقرار في الأوّل واختصاصه بالثاني، وهما خلاف
الإجماع قطعاً، حتى من العماني، إذ لم ينقل الخلاف منه إلاّ في اعتبار تكرار الإقرار لا في غيره.
اعتبار اختلاف مجالس الإقرار [تعديل]
وهل يشترط اختلاف مجالس الإقرار أربعاً بعدده؟ أشبهه: أنّه لا يشترط وفاقاً لإطلاق الأكثر، وبه صرّح عامّة من تأخّر؛ لإطلاق
الخبر الذي مرّ.
خلافاً
للخلاف والمبسوط وابن حمزة [۱۶] [۱۷] [۱۸]، فيشترط؛ وحجّتهما عليه غير واضحة، عدا الإجماع المستظهر من الأوّل كما قيل
[۱۹]، وما دلّ من النصوص على تعدّد مجالس الأقارير عند
النبيّ والأمير صلوات الله وسلامه عليهما [۲۰] [۲۱].
والأوّل على تقدير صحّة الظهور موهون بندرة القائل به؛ إذ ليس إلاّ الناقل ونادر. والثاني لا يفيد الحصر؛ لأنّه قضية اتّفاقيّة، مع أنّها ليست في اختلاف المجالس الأربعة صريحة، ولا يحصل بمثلهما شبهة تكون للحدّ دارئة، سيّما مع كون عدم الاشتراط مذهب المتأخّرين كافّة كما عرفته.
عدم تبيين الإقرار بحد [تعديل]
ولو أقرّ أحدٌ بحدّ ولم يبيّنه ما هو؟ زنا أو غيره؟ لم يكلَّف البيان بلا خلاف، و ضُرِبَ حتى ينهى ويمنع الضرب عن نفسه بأن يقول: يكفي، كما في
الصحيح [۲۲] [۲۳] [۲۴] على الصحيح، وبه أفتى
القاضي [۲۵]، ورواه في
النهاية [۲۶] مشعراً برضاه به، ووافقهما
الحلّي والفاضلان في
الشرائع والإرشاد والتحرير والقواعد
[۲۷] [۲۸] [۲۹] [۳۰] [۳۱] وغيرهما
[۳۲] [۳۳]، ولكنّهم قيّدوه بما إذا لم يزد على المائة، ومع الزيادة لا يُضرَب وإن لم ينه عن نفسه؛ إذ لا حدّ فوقها. وما يزاد عليها لشرف المكان أو الزمان تعزيرٌ زائد على أصل الحدّ، والأصل عدمه.
قيل: نعم، إن علم بالعدد والمسألة وطلب الزيادة توجّه الضرب إلى أن ينهى عن نفسه
[۳۴].
وزاد الحلّي، فقيّد في طرف النقيصة، فقال: لا يضرب أقلّ من ثمانين؛ إذ لا حدّ دونه
[۳۵].
وفيه منع واضح، فإنّ
حدّ القوّاد خمسة وسبعون.
وزاد
الفاضلان في وجه المنع احتمال إرادته من الحدّ
التعزير [۳۶] [۳۷].
ورُدّ بأنّه مجاز لا قرينة عليه في إقراره
[۳۸] [۳۹].
وفيه نظر، إذ المجازيّة إنّما هي في
الشرع لا في كلام المقرّ، وهو يحتمل كون الحدّ فيه حقيقة في الأعمّ من
الحدّ الشرعي والتعزير، والقرينة المعيّنة هي نهيه عن الضرب فيما بعد، وتصلح قرينة صارفة أيضاً على التقدير الأوّل، كما يفهم من ظاهر الفاضلين وصريح غيرهما
[۴۰]، وفيه تأمّل.
ومع ذلك جارٍ مثله في طرف الزيادة على المائة، فيقال: عدم الإنهاء عن نفسه إلى أن يزاد عليها قرينة إرادته من الحدّ المقرّ به التعزير، فتأمّل.
وبالجملة: الأجود أمّا العمل بإطلاق الرواية، أو اطراحها بالمرّة كما عليه في المسالك
[۴۱] لضعف
السند بالاشتراك، ومخالفتها الأُصول، فإنّ الحدّ كما قد عُلم يطلق على
الرجم ، وعلى
القتل بالسيف، والإحراق بالنار، ورمي الجدار عليه، وغير ذلك ممّا ستقف عليه إن شاء الله تعالى، وعلى
الجلد ، والجلد يختلف كمّيةً وكيفيةً، فحمل مطلقه على الجلد غير مناسب للواقع.
وهو حسن، غير أنّ ما ذكر من تضعيف السند محلّ نظر؛ لما مرّ، ومع ذلك فبالشهرة الظاهرة ولو في الجملة والمحكيّة مطلقاً عن
الماتن في
النكت [۴۲] [۴۳] منجبر.
وعلى هذا، فالخروج عن الأُصول بمثله محتمل، سيّما مع التأيّد بما عن المقنع، من أنّه قال: وقضى
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ولم يبيّن أيّ حدٍّ هو؟ أن يجلد حتى يبلغ ثمانين، فجلد، ثم قال: «لو أكملت جلدك مائة، ما ابتغيت عليه بيّنة غير نفسك»
[۴۴] [۴۵]. وهو قد يؤيّد ما عليه الحلّي.
وأمّا ما يخالف ذلك من
النصوص [۴۶]، فمع عدم وضوح سنده بل ضعفه غير واضح الدلالة على المخالفة.
قيل: وإطلاق الخبرين الأوّلين وكلمة
الأصحاب منزّل على الحدّ الذي يقتضيه ما وقع منه من الإقرار، فلا يحدّ مائة ما لم يقرّ أربعاً، ولا ثمانين ما لم يقرّ مرّتين، ولا يتعيّن المائة إذا أقرّ أربعاً، ولا الثمانون إذا أقرّ مرّتين على قول غير الحلّي
[۴۷].
ولعلّ التنزيل للجمع بين الأدلّة، ولا بأس به.
الإنكار بعد الإقرار بما يوجب الرجم [تعديل]
ولو أقرّ بما يوجب الرجم ثم أنكره، سقط عنه بلا خلاف، بل عليه
الإجماع عن الخلاف
[۴۸]؛ للصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة.
ففي الصحيح: «من أقرّ على نفسه بحدّ أقمته عليه، إلاّ الرجم، فإنّه إذا أقرّ على نفسه ثم جحد لم يرجم»
[۴۹] [۵۰].
وليس فيها ولا فيما وقفت عليه من
الفتاوى اعتبار
الحلف ، وعن
جامع البزنطي : أنّه يحلف ويسقط عنه الرجم، وأنّه رواه عن
الصادقين (علیهماالسّلام) بعدّة أسانيد. ولم أقف على شيء منها.
← عدم سقوط سائر الحدود غير الرجم
ويستفاد منها: أنّه لا يسقط غيره من سائر الحدود بالإنكار، ولا خلاف فيه أيضاً إلاّ من الخلاف
والغنية ، حيث أطلقا سقوط الحدّ بالرجوع من دون فرق بين كونه رجماً أو غيره
[۵۱] [۵۲]؛ ومستندهما غير واضح، عدا الإجماع الذي استدلّ به في الخلاف، ووهنه ظاهر، ومع ذلك عن معارضة ما مرّ من النصوص المستفيضة المعتضدة بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً، بل إجماع في الحقيقة قاصر؛ مع أنّه قيل: يمكن حمل كلام الأوّل على الرجوع قبل كمال ما يعتبر من المرّات في
الإقرار [۵۳].
وأمّا الخبر: «لا يقطع السارق حتى يقرّ بالسرقة مرّتين، فإن رجع ضمن
السرقة ، ولم يقطع إذا لم يكن شهود»
[۵۴] [۵۵] [۵۶] [۵۷] فمع ضعفه بالإرسال وغيره، شاذّ لا عامل به، محمول على الرجوع بعد الإقرار مرّة.
ويدخل في إطلاق غير الرجم في النصّ والعبارة ونحوها: القتل بغيره، فلا يسقط بالرجوع عن الإقرار.
واستشكله في
القواعد [۵۸]؛ من خروجه عن المنصوص، ومن
الاحتياط في الدماء، وبناء الحدّ على التخفيف. ولعلّ هذا أظهر، وفاقاً للمحكيّ عن
الوسيلة [۵۹]؛ لذلك، ولمنع اختصاص النصّ بالرجم.
ففي
المرسل كالصحيح بابن أبي عمير وجميل، قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بالقتل قُتِل إذا لم يكن عليه شهود، فإن رجع وقال: لم أفعل، تُرِك ولم يُقتَل»
[۶۰] [۶۱] والقتل يشمل موجبه بغير الرجم إن لم نقل بظهوره فيه.
التوبة بعد الإقرار في حدود الله [تعديل]
ولو أقرّ بحدّ ثم تاب عن موجبه كان
الإمام مخيّراً في الإقامة عليه أو العفو عنه مطلقاً رجماً كان أو غيره بلا خلاف إلاّ من الحلّي، فخصّه بالرجم، قال: لأنّا أجمعنا أنّه بالخيار في الموضع الذي ذكرنا، ولا إجماع على غيره، فمن ادّعاه وجعله بالخيار وعطّل حدّا من
حدود الله تعالى فعليه الدليل
[۶۲].
ورُدّ بأنّ المقتضي لإسقاط الرجم عنه: اعترافه
بالذنب ، وهو موجود في الحدّ؛ لأنّه إحدى العقوبتين، ولأنّ
التوبة تسقط تحتم أشدّ العقوبيتن، فإسقاطها لتحتّم الأُخرى الأضعف أولى
[۶۳].
والأولى الجواب عنه بقيام الدليل في غير الرجم أيضاً، وهو النصوص.
ففي الخبرين بل الأخبار: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين (علیهالسّلام) فأقرّ بالسرقة، فقال: أتقرأ شيئاً من
القرآن ؟ قال: نعم،
سورة البقرة ، قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطّل حدّا من حدود الله تعالى؟ فقال: وما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام إن شاء عفا، وإن شاء قطع»
[۶۴] [۶۵] [۶۶] [۶۷] [۶۸] [۶۹] [۷۰].
وقصور الأسانيد مجبور بالتعدّد، مع عمل الأكثر، بل الكلّ عداه، وهو شاذٌّ كما صرّح به بعض الأصحاب
[۷۱]. وأخصّية المورد مدفوع بعموم الجواب، مع عدم قائل بالفرق بين الأصحاب.
مع ورود نصّ آخر
باللواط متضمّناً للحكم أيضاً على العموم من حيث التعليل، وهو المرويّ عن
تحف العقول ، عن
أبي الحسن الثالث (علیهالسّلام) ، في حديث، قال: «وأمّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنّه لم تقم عليه البيّنة، وإنّما تطوّع بالإقرار عن نفسه، وإذا كان للإمام الذي من الله تعالى أن يعاقب عن الله سبحانه كان له أن يمنّ عن الله تعالى؛ أما سمعت قول الله تعالى «هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ»
[۷۲]؟!»
[۷۳] [۷۴].
نعم، ليس في شيء منها اعتبار التوبة، كما هو ظاهر الجماعة ولعلّ اتّفاقهم عليه كافٍ في تقييدها بها.
وظاهره كباقي النصوص والفتاوى قصر
التخيير على الإمام، فليس لغيره من الحكّام، وعليه نبّه بعض الأصحاب
[۷۵]، واحتمل بعضٌ ثبوته لهم أيضاً
[۷۶]، وفيه إشكال،
والأحوط إجراء الحدّ أخذاً بالمتيقن؛ لعدم لزوم العفو.
ثم إنّ هذا في حدود الله سبحانه.
التوبة بعد الإقرار في حقوق الناس [تعديل]
وأمّا حقوق الناس، فلا يسقط الحدّ إلاّ بإسقاط صاحبه، كما صرّح به بعض الأصحاب
[۷۷]؛ ووجهه واضح. وفي بعض المعتبرة: «لا يعفى عن الحدود التي لله تعالى دون الإمام، فأمّا ما كان من
حقّ الناس في حدّ فلا بأس بأن يعفى عنه دون الإمام»
[۷۸] [۷۹] [۸۰] [۸۱].
المراجع [تعديل]
المصدر [تعديل]
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۴۵۲-۴۶۰.