الإجزاء - ویکی فقه 


الإجزاء


إجزاء أوّلًا- التعريف:
ض‌ لغة:
الإجزاء: إفعال من جزأ بمعنى الكفاية، يقال: أجزأني الشي‌ء إجزاءً إذا كفاني. [۱]
والجزء: الاستغناء بالشي‌ء عن الشي‌ء، وكأنّه الاستغناء بالأقل عن الأكثر، فهو راجع إلى معنى الجزء.
قال ابن الأعرابي: يجزئ قليل من كثير، ويجزئ هذا من هذا، أي كل واحد منهما يقوم مقام صاحبه.
وجزأ بالشي‌ء وتجزّأ: قنع واكتفى به، وأجزأه الشي‌ء: كفاه. [۲] [۳]
ض‌ اصطلاحاً:
استعمل الفقهاء لفظ الإجزاء في الأبواب الفقهية وكذلك في علم اصول الفقه، وقد قصدوا به نفس المعنى اللغوي في كلا المجالين لا غير، فالمراد به في اصول الفقه هو كفاية ما يأتي به المكلّف واغنائه عن المأمور به في الحكم الشرعي. أو كفاية امتثال الأمر الظاهري أو الاضطراري عن امتثال الأمر الواقعي بعد انكشاف الخلاف أو رفع الاضطرار وعدم لزوم الإعادة أو القضاء كل بحسب مورده. كما إذا عمل طبقاً لخبر الثقة ثمّ انكشف أنّه على خلاف الواقع، أو تيمّم امتثالًا للأمر الاضطراري بدلًا عن الوضوء ثمّ ارتفع العذر والاضطرار في الوقت.
وقد بحث هذا مفصّلًا في محلّه في اصول الفقه.
دلالات للفظ الإجزاء في لسان الروايات:
أمّا في المجال الفقهي فقد ورد في كثير من الأحاديث المروية عن المعصومين من أهل البيت عليهم السلام: «يجزيك كذا» أو «يجزي كذا» أو «أجزأه كذا» وغيرها من العبارات المرتبطة بهذا اللفظ والتي هي بمعنى الكفاية.
۱- عدم كفاية الأقل من المجزي:
لا شك في كفاية ما حكموا باجزائه عن المأمور به واجباً أو مستحباً، إلّا أنّه وقع الكلام في أنّ الإجزاء هل يدل على عدم كفاية الأقل من المجزي، وأنّ (المذكور) أقل ما يجزئ، أم لا؟
الظاهر من جماعة [۴] [۵] [۶] [۷] [۸] الأوّل، قال المحقق الحر العاملي في مسألة مقدار الجبهة للسجود: «والإجزاء إنّما يستعمل في أقل الواجب». [۹]
وقال آخرون [۱۰] [۱۱] [۱۲] [۱۳] [۱۴] بعدم دلالة الإجزاء على عدم كفاية الأقل، واستدلوا على ذلك بأنّ الإجزاء بمعنى الكفاية والإغناء، ولا شك أنّ كون الشي‌ء كافياً أو مغنياً لا يدلّ على عدم كفاية الأقل منه؛ ولذا يصح استعماله مع الأقل والأكثر، فاللفظ في نفسه لا يدلّ على عدم كفاية الأقل.
نعم، قد يكون عدم كفاية الأقل معلوماً من دليل آخر، أو من الأصل، وهذا ما ذكره المحقق النراقي حيث قال: «إنّ استعمال الإجزاء في الأخبار على وجوه، فورد تارة مثل قوله: «يجزي غسل الجمعة عن الجنابة» فاستعمل مع «عن»، واخرى: «يجزي في الركوع سبحان اللَّه مرّة» فاستعمل مع «في»، وثالثة:
«يجزيك كذا»، فالأصل في الأوّل عدم كفاية الأقل؛ لأنّ الأصل عدم قيام فعل مقام آخر، وفي الأخيرين يختلف الأصل بحسب اختلاف المقامات، فتارة يكون مع كفاية الأقل، واخرى مع عدمها، وعلى الفقيه ملاحظة المقامات». [۱۵] [۱۶]
۲- كون المجزي أقل الواجب:
وعلى فرض دلالة لفظ الإجزاء على عدم كفاية الأقل، يقع البحث في دلالته على أنّه (المجزي) أقل الواجب أو الأعم منه ومن المستحب، أي أقل المأمور به سواء كان ندباً أم وجوباً، فلو ورد في الرواية: «أنّه يجزيك في الركوع سبحان اللَّه ثلاثاً» يكون هذا أقل الواجب، أم لا يدل على ذلك؟
وقد تقدّم كلام المحقق العاملي في المدارك بأنّ الإجزاء يستعمل في أقل الواجب، [۱۷] وذهب إليه العلّامة الحلّي من قبل، [۱۸] وكذا الفيض الكاشاني، [۱۹] وغيرهم. [۲۰] [۲۱] [۲۲] [۲۳]
وقال السبزواري: «وغالب استعمال الإجزاء في أقل الواجب». [۲۴]
ومنهم من اختار القول بعدم الدلالة على ذلك، قال المحقق النراقي في مقام بيان ما يجتزأ به من الآذان والإقامة: «كل ذلك لروايات قاصرة من حيث الدلالة؛ لحصرها بكثرتها بين مشتمل على ذكر عدم الإجزاء المحتمل لإرادة الإجزاء عن الواجب وفي الصحّة، أو عن الاستحباب وفي الفضيلة، وحاصله الإجزاء عن المطلوب، بل هو حقيقة الإجزاء من غير مدخلية للوجوب أو الاستحباب»، [۲۵] ونحوه ذكر في عوائد الأيّام ثمّ أضاف:
«فإن كان المجزي عنه مذكوراً فالأمر واضح، وإن لم يكن مذكوراً فيحتمل الأمرين، فالحمل على أحدهما (الواجب أو المستحب) لا وجه له... نعم، إذا ورد في موضع علم فيه وجوب شي‌ء ولم يعلم تحقّق الأمر الاستحبابي، فيحمل على الوجوبي، لأصالة عدم استحباب شي‌ء، فإذا قال: «يكفي ثلاث تسبيحات في الركعتين الأخيرتين» يحمل على الواجب؛ لأصالة عدم استحباب شي‌ء فيهما، بخلاف ما إذا علم ذلك أيضاً، فيكون مردداً، كما في الركوع والسجود حيث علم فيه استحباب الزائد عن القدر الواجب، فلو قال: يكفيك ثلاث تسبيحات فيه، يحتمل الأمرين». [۲۶]
وقال المحقق النجفي في مقام الرد على من قال أنّ أكثر نصوص وجوب الإقامة إنّما هو للتعبير فيها بلفظ الإجزاء والرخصة ونحوهما بما هو ظاهر في الوجوب: «بل المراد منه (الإجزاء) فيه الاكتفاء الشامل للندب والوجوب، كما لا يخفى على المتتبع نصوصهم عليهم السلام». [۲۷]
وقال المحقق النائيني: «فإنّ معنى كون الشي‌ء مجزياً هو كونه مجزياً عن أمره، ندباً كان أو واجباً، وبالجملة لفظة الإجزاء وعدم الإجزاء في كل مورد وردت لا دلالة لها على الوجوب». [۲۸] ونحوهم ظاهر كلام السيدين الخوئي [۲۹] والگلبايگاني. [۳۰]
۳- دلالة لفظ الإجزاء على الاكتفاء بنحو الرخصة أو العزيمة:
قد يبدو من كلمات بعض فقهائنا أنّهم اختلفوا في أنّ الظاهر من لفظ الإجزاء كون الاكتفاء على نحو الرخصة، أم العزيمة، أو أنّه لا ظهور للفظ في أي من النحوين.
فقد استظهر بعضهم من اللفظ النحو الأوّل (أي كون الإجزاء على نحو الرخصة)، منهم المحقق الطباطبائي حيث قال في مقام التعليق على الروايتين [۳۱] [۳۲] [۳۳] اللّتين مفادهما الاجتزاء بأذان الغير:
«وظاهرهما من حيث التضمّن للفظ الإجزاء كون السقوط هنا رخصة لا عزيمة، وبه صرّح جماعة»، [۳۴] وكذا المحقق النجفي حيث قال في مقام استعراض الروايات التي تفيد الاجتزاء بغسل واحد لمن اجتمع عليه أكثر من موجب: «وأيضاً لو اخذ بهذا الإطلاق لكان التداخل فيها عزيمة لا رخصة، وهو مخالف لظاهر قوله عليه السلام (أجزأك) ونحوه»، [۳۵] وهذا النحو استظهره أيضاً السيد العاملي في مدارك الأحكام [۳۶] والمحقق السبزواري في بعض كلماته في ذخيرة المعاد. [۳۷]
واستظهر البعض النحو الثاني (كون‌
الإجزاء على نحو العزيمة) وهذا يمكن ملاحظته في مواضع عديدة من كلمات المحقق النراقي:
منها: ما ذكره في مسألة سقوط الأذان عن السامع من الغير، قال: «ثمّ إنّ سقوطهما (الأذان والاقامة) حينئذٍ هل هو رخصة فتستحب إعادتهما أيضاً، أم عزيمة؟ الظاهر الثاني، وإن اتسع الوقت بين السماع والصلاة... لأنّه مقتضى لفظ الإجزاء، إذ معناه كفايته عن الأذان أو الاقامة المأمور به، فاذا اكتفى عنه فلا يبقى أمر آخر»، [۳۸] وكذا أشار في مقام البحث في تداخل الأغسال وإجزاء غسل واحد عنها حيث قال: «... وظهور الإجزاء في الرخصة ممنوع». [۳۹] ونحوها في مواضع اخرى.
وذهب بعض آخر إلى القول بأنّ المستفاد من لفظ الإجزاء هو الاكتفاء بالمجزي من دون دلالة على الرخصة أو العزيمة فيه، قال المحقق الهمداني في مقام التعليق على من قال بعدم حرمة القراءة على المأموم مع سماعه صوت الإمام لإشعار لفظ الإجزاء في الرواية بالجواز:
«الظاهر أنّ المراد بالجواب أنّ سماع الصوت يجزيه في الاكتفاء به عن القراءة وإن لم يفقه، وأمّا الاكتفاء رخصة أم عزيمة فلا يكاد يستفاد من ذلك». [۴۰] [۴۱]
ونحوه ما ذكره المحقق الاصفهاني في كتاب صلاة الجماعة، [۴۲] والسيد الخوئي في مستند العروة. [۴۳]
۴- دلالة لفظ الإجزاء على أرجحيّة المجزئ عنه:
ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ لفظ الإجزاء يدل على أرجحيّة المجزئ عنه على المجزي، حيث قال المحقق النجفي في مقام تعليله لحكم مستحبات إعادة الأذان والاقامة مطلقاً لمن سمعهما من الغير: «بل ظاهر لفظ الإجزاء رجحانه عليه». [۴۴]
وقال المحقق الاصفهاني في البحث حول إجزاء التسبيح في الركعتين‌
الأخيرتين: «فقوله عليه السلام في آخرها (صحيحة ابن سنان) : ويجزيك التسبيح في الأخيرتين، كما يستفاد منه أنّه هناك شي‌ء آخر يجتزي به، كذلك يستفاد منه أنّ موقع التسبيح موقع الإجزاء والاجتزاء، فيومئ إلى أرجحيّة القراءة». [۴۵]
وقال السيد الخوئي في بيان أفضلية الغسل الترتيبي من الارتماسي: «لأنّ الأخبار الواردة في المقام إنّما أمرت بالغسل ترتيباً... فلو كنّا نحن وهذه الأخبار لقلنا بتعيّن الترتيبي لا محالة، ولكنّه ورد أنّ الارتماسي مجزٍ عن ذلك الواجب الأوّل، فإذا ضمّ أحدهما إلى الآخر ينتج... ومعه يكون الترتيبي هو الأفضل...». [۴۶]
۵- دلالة لفظ الإجزاء على اختلاف المجزي عن المجزئ عنه حقيقة:
ادعى بعض الفقهاء دلالة لفظ الإجزاء على الاختلاف بين المجزي والمجزى عنه في الحقيقة، قال السيد الخوئي- في مقام البحث في أنّ حجّ البالغ وحجّ الصبي أو العبد هو حقيقة واحدة أم من قبيل اتحاد الصورة في الموارد المختلفة واختلاف الحقيقة-: «هذه الروايات الدالة على الإجزاء وعدمه تكشف عن الاختلاف في الحقيقة بين المجزي والمجزى عنه، فإنّ المجزي غير المجزئ عنه؛ إذ لا معنى لكون الشي‌ء مجزياً عن نفسه، فإنّ إجزاء شي‌ء عن شي‌ء يقتضي الاثنينية والاختلاف بينهما». [۴۷]
وقد أشار إلى هذا المعنى أيضاً المحقق النجفي في مناقشة من قال بأنّ الحدث الأكبر أمر واحد بسيط وتعدّد أسبابه لا يقضي بتعدّده، حيث قال: «... ليس في الأدلّة ما يدلّ عليه... والعقل لا نصيب له في ذلك، فإنّه لا مانع من تعدّد الأغسال بتعدد الأحداث، بل ظاهر قوله عليه السلام: إذا اجتمعت عليك للَّه حقوق أجزأ عنها غسل واحد. وغيره ذلك (التعدّد)؛ لظهور لفظ الحقوق والإجزاء فيه». [۴۸]
ثانياً- مسألة الإجزاء في اصول الفقه:
توضيحاً للمسألة يقال: إنّ مقتضى القاعدة الأولية في كل أمر عدم تحقّق امتثاله بغير متعلقه، وهذا ما يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء، كما لو قال المولى: اعتق رقبة، فلا يسقط الأمر إلّا بعتق الرقبة، ولا يكفي- مثلًا- توزيع ثمن الرقبة على الفقراء؛ فإنّ توزيع الثمن ليس هو المأمور به، فاسقاطه للأمر يحتاج إلى دليل؛ إذ لو كان مسقطاً لكان من المناسب تقييد الأمر بعدمه، بأن يقال: يجب عتق الرقبة إن لم يوزّع ثمنها، وحيث لم يقيد بل أطلق، كان ذلك دليلًا على عدم إجزاء غير العتق.
ولازم هذه القاعدة عدم إجزاء الوظيفة الظاهرية أو الاضطرارية عن امتثال الأمر الواقعي، ولا يسقط الأمر الواقعي إلّا بالاتيان بالمأمور به الواقعي.
إلّا أنّه يدعى الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات استناداً إلى ملازمة عقلية، إذ قد يقال بأنّ الأمر الاضطراري أو الظاهري يدل دلالة التزامية عقلية على إجزاء متعلّقه عن الواجب الواقعي، على أساس وجود ملازمة بين جعله وبين نكتة تقتضي الإجزاء، وهذا يمكن بيانه فيما يأتي:
لا إشكال في أنّ المكلّف لو أتى بما هو مأمور به- سواء كان مأموراً بالأمر الواقعي الاختياري أو الاضطراري أو الظاهري- يسقط ذلك الأمر قطعاً، فمن كان مأموراً بالوضوء وأتى به أو كان مأموراً بالتيمم فأتى به سقط الأمر الاختياري الواقعي في الأوّل، والأمر الاضطراري في الثاني، وعليه لا يجب اتيانه ثانياً- وهذا أمر عقلي- لأنّه امتثال بعد امتثال وهو محال لاستلزامه المعلول بلا علة، إذ الامتثال معلول للأمر، وبعد الامتثال الأوّل لا يبقى أمر كي يصدق الامتثال. وهذا مما لا إشكال فيه.
إنّما الاشكال في ما إذا اختلف الأمران كما لو كان أحدهما واقعياً اختيارياً والآخر اضطرارياً، أو واقعياً والآخر ظاهرياً.
فيقع البحث هنا في مرحلتين، إحداهما: في إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن الاختياري الواقعي.
والثانية: في إجزاء اتيان المأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي.
أمّا الاولى (دلالة الأوامر الاضطرارية على الإجزاء عقلًا)، كما لو تعذّر الواجب الأصلي على المكلّف فامر بالميسوراضطراراً، كالفاقد للماء يشرع في حقّه التيمّم، أو العاجز عن القيام تشرع في حقّه الصلاة من جلوس.
وهنا يأتي الكلام في ما لو تحققت القدرة على الوضوء أو القيام، فهل تجب الإعادة أو لا؟ يقال: تارة يكون الأمر الاضطراري ثابتاً بمجرد عدم التمكّن في أوّل الوقت ويعبر عنه بجواز البدار، واخرى يكون مقيّداً باستمرار العذر في تمام الوقت.
والقاعدة تقتضي في الحالة الاولى عدم وجوب الإعادة؛ لأنّه مقتضى جواز البدار المستفاد من الأمر الاضطراري حتى لمن يعلم بارتفاع عذره آخر الوقت، فلو لم يكن المكلّف قادراً على الصلاة مع الوضوء أو القيام، وبادر إلى الصلاة مع التيمم أو الجلوس في أوّل الوقت ثمّ ارتفع العذر قبل انتهاء الوقت، فلا تلزمه الاعادة؛ إذ لو أتى المكلف بالصلاة جالساً أو مع التيمم كانت صلاته مصداقاً للواجب الاضطراري، حتى مع ارتفاع عذره في آخر الوقت، ولازم ذلك كفاية الصلاة العذرية التي يأتي بها أوّل الوقت.
وأمّا إذا كان الأمر الاضطراري مقيّداً باستمرار العذر في تمام الوقت، فتارة يصلّي المكلّف في أوّل الوقت ثمّ يرتفع عذره قبل انتهاء الوقت ويصير متمكناً من الصلاة الاختيارية، ولازمه بطلان الصلاة العذرية التي أتى بها؛ إذ أنّ صحتها مشروطة باستمرار العذر والفرض عدم استمراره، ومع بطلانها لا تقع مجزية عن الصلاة الاختيارية.
وأمّا إذا بقي الحدث مستمراً فالبحث عن وجوب الإعادة لا معنى له؛ لفرض عدم ارتفاع العذر داخل الوقت. نعم، يرد البحث في وجوب القضاء والاتيان بالصلاة الاختيارية بعد انقضاء الوقت وعدمه، حيث إنّ مجرد الصلاة العذرية داخل الوقت لا يمكن أن يفهم منه اشتمالها على تمام مصلحة الصلاة الاختيارية ليثبت الإجزاء، بل اثباته يحتاج إلى دليل خاص.
هذا ولكن ذلك إنّما يصح إذا لم يكن الواجب وهو الصلاة في الوقت بنحو وحدة المطلوب، بل كان بنحو تعدّد المطلوب بحيث كان الأمر القضائي نفس الأمر الأوّل لا أمراً جديداً، وإلّا كان من الشك في الأمر الجديد.هذا مضافاً إلى أنّ نفس دليل الأمر بالفعل الاضطراري داخل الوقت دالّ باطلاقه أو بالملازمة العرفية أو بظهور لسانها في الكفاية على الاجتزاء، وعدم وجوب القضاء ثانياً خارج الوقت خصوصاً في التيمّم، فقد يستفيد الفقيه من حديث «التيمّم أحد الطهورين»، [۴۹] [۵۰] وحديث «يكفيك الصعيد عشر سنين» [۵۱] الإجزاء وعدم وجوب الاعادة خارج الوقت واشتماله على تمام المصلحة كالوضوء. [۵۲]
وأمّا المرحلة الثانية (دلالة الأوامر الظاهرية على الإجزاء) كما لو دلّت الأمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة مثلًا، ثمّ اتضح الخلاف، وأنّ الواجب واقعاً هو الجمعة. أو إذا شهد الثقة بطهارة الثوب فصلّى فيه المكلّف، ثمّ اتضحت نجاسته واقعاً. فهنا يقع الكلام في أنّ الوظيفة الظاهرية التي أتى بها المكلّف طبقاً للحجة الشرعية هل تجزي عن الوظيفة الواقعية بلا حاجة إلى قيام دليل خاص على الإجزاء، أو يحتاج الإجزاء في كل مورد إلى دليل خاص، وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الإجزاء.
والكلام في المسألة تارة يكون في فرض انكشاف مخالفة الحكم الظاهري للواقع بالجزم واليقين، واخرى في فرض تبدل الحكم الظاهري.
وعلى الأوّل قيل بأنّ مقتضى الأصل والقاعدة هو عدم الإجزاء؛ لأنّ الحكم الظاهري لا يرفع الحكم الواقعي، فمع انكشاف عدم امتثاله مع فعليته بحسب الفرض يجب لا محالة الاعادة والقضاء.
وهناك من قال بالتفصيل في الإجزاء في بعض الأنحاء وعدمه في أنحاء اخرى، وأهم ما ذكر في هذا المقام:
۱- ما ذكره المحقق الخراساني [۵۳] واختاره ووافقه فيه المحقق الاصفهاني، [۵۴] حيث فصّلا بين حكم ظاهري ثبت بلسان جعل الحكم المماثل للواقع كأصالة الطهارة وأصالة الحل، وحكم ظاهري‌ ثبت بلسان إحراز الواقع، ففي الأوّل ذكرا بأنّ مقتضى القاعدة الإجزاء بخلاف الثاني، كما لو صلّى المكلّف مع أصالة الطهارة ثمّ انكشف الخلاف، فهنا لا تجب الإعادة؛ لأنّ قاعدة الطهارة تثبت طهارة جديدة مغايرة للطهارة الواقعية تسمّى بالطهارة الظاهرية، ولازم هذا حصول توسعة في الدليل الدال على شرطية الطهارة في الصلاة ليشمل الطهارة الواقعية والظاهرية، وعليه لا يلزم إعادة الصلاة بعد انكشاف النجاسة واقعاً.
أمّا لو كان المستند لاحراز الطهارة هو خبر الثقة فتجب الإعادة؛ لأنّ خبر الثقة لا يجعل طهارة ظاهرية جديدة مغايرة للطهارة الواقعية، وتوسع دائرة الشرطية إلى الطهارة الظاهرية، بل إنّ خبر الثقة يخبر عن الطهارة الواقعية ويحاول ايصالنا لها من دون جعل طهارة جديدة.
وقد نوقش هذا التفصيل بمناقشات عديدة ذكرت في محلّه في اصول الفقه.
۲- التفصيل بين القول بالسببية في حجّية الأحكام الظاهرية وبين القول بالطريقية، فعلى الأوّل يقال بالإجزاء دون الثاني.
حيث يقال بأنّ الشارع المقدس حينما جعل الأمارة حجّة لا بد وأن يفرض صيرورتها سبباً لحدوث المصلحة في مؤداها، فإذا أدّت إلى وجوب الظهر مثلًا، فمؤداها هذا (وجوب الظهر) لا بد من حدوث المصلحة فيه، وإلّا كان جعل الحجّية لها من قبل الشارع قبيحاً؛ لأنّه يوجب تفويت مصلحة الواقع، ومعه يلزم إجزاؤها لعدم الفرق بينها وبين الجمعة في الوفاء بالمصلحة.
وهذا المسلك القائل بكون الامارة سبباً لحدوث المصلحة في مؤداها هو المعروف بمسلك السببية، وقد نوقش بأنّ التمسك به يستلزم التصويب، كما أنّ الاحتمالات الاخرى التي ذكرها الاصوليون في محله في حجّية الأمارات أو الأصل كلها لا تثبت الإجزاء، وما يثبته منها يستلزم التصويب.
قال السيد الشهيد الصدر: «ويرد على ذلك (إثبات الإجزاء بمسلك السببية) أوّلًا:
إنّ الأحكام الظاهرية أحكام طريقية تنشأ من مصالح وملاكات في متعلّقاتها بل من‌ نفس ملاكات الأحكام الواقعية... ولو كانت الأحكام الظاهرية ناشئة من مصالح وملاكات على ما ادعي للزم التصويب؛ إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهرية بنفس ملاك الواجب الواقعي يستحيل أن يبقى الوجوب الواقعي مختصاً بمتعلّقه الأولي، بل ينقلب لا محالة ويتعلّق بالجامع بين الأمرين، وهذا نحو من التصويب.
وثانياً: إذا سلّمنا أنّ ما يفوت على المكلّف بسبب الحجّة الظاهرية من مصالح لا بد أن تضمن الحجّة تداركه، إلّا أنّ هذا لا يقتضي افتراض مصلحة إلّا بقدر ما يفوت بسببها، فإذا فرضنا انكشاف الخلاف في أثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجة إلّا فضيلة الصلاة في أوّل وقتها مثلًا، لا أصل ملاك الواقع لإمكان استيفائه، وهذا يعني أنّ المصلحة المستكشفة من قبل الأمر الظاهري إنّما هي في سلوك الأمارة والتعبد العملي بها بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلّف بهذا السلوك، وليست قائمة بالمتعلق وبالوظيفة الظاهرية بذاتها، فإذا انقطع التعبد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد المصلحة، وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكية، وعليه فلا موجب للإجزاء عقلًا.
نعم، يبقى إمكان دعوى الإجزاء بتوهم حكومة بعض أدلّة الحجّية (كقاعدة الطهارة) على أدلّة الأحكام الواقعية (كشرطية الطهارة للصلاة) وتوسعتها لموضوعها... وهو إجزاء مبني على الاستظهار من لسان دليل الحجّية ولا علاقة له بالملازمة العقلية». [۵۵]
هذا كلّه في ما إذا انكشف الخلاف بالجزم واليقين.
أمّا إذا انكشف خلاف الحكم الظاهري بالتعبد، فتارة يكون هذا الانكشاف بأمارة مثبتة لجميع اللوازم، واخرى يكون بأصل عملي.
فإذا كان انكشاف الخلاف بالأمارة، كما إذا أفتى المجتهد بوجوب الجمعة بالاستصحاب، ثمّ عثر على رواية معتبرة تدل على وجوب الظهر تعييناً، فالصحيح‌ عدم الإجزاء ولزوم الاعادة والقضاء؛ لأنّ ذلك مدلول التزامي للأمارة نفسها على كل تقدير.
وإذا انكشف الخلاف بالأصل فهناك صور عديدة، أهمها ما يلي:
أ- أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب، فالقاعدة تقتضي عدم الإجزاء سواء كانت الشبهة موضوعية، كمن توضأ فشكّ في أثناء وضوئه وبنى على قاعدة التجاوز فيه، ثمّ ظهر له بحجّة اخرى- اجتهاداً أو تقليداً- عدم جريانها في إجزاء الوضوء، فجرى في حقّه استصحاب عدم الاتيان بالجزء المشكوك من وضوئه، فيحكم بوجوب الاعادة داخل الوقت وبوجوب القضاء خارجه.
أو كانت الشبهة حكمية، كما لو فرض ثبوت وجوب الظهر عليه بدليل اجتهادي، ثمّ عدل عن ذلك ووجد خللًا في مدركه فاستصحب بقاء وجوب الجمعة الثابت في عصر الحضور مثلًا، ففي الوقت يجب الاتيان بها وفي خارجه يجب القضاء.
ب- أن ينكشف الخلاف بأصالة الاشتغال، سواء كان بملاك منجّزية العلم الإجمالي، كما إذا عدل عن رأيه بوجوب الظهر مثلًا تعييناً فحصل له علم اجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة، أو حصل له العلم الإجمالي بوجوب القصر أو التمام في من عمله يتوقّف على السفر، بعد أن كان يرى وجوب التمام عليه، فهنا لا إشكال في وجوب الاحتياط قبل العمل، وأمّا إذا لم يصلّ داخل الوقت إلّا إحداهما حتى خرج الوقت، فهنا يقال بالقضاء احتياطاً على بعض الوجوه.
وكذلك لو حصل له الانكشاف بعد أن صلّى الجمعة مثلًا، فقد يقال بوجوب الظهر احتياطاً أداءً داخل الوقت وقضاءً خارجه.
أو كان على أساس الدوران بين الأقل والأكثر- بناءً على أصالة الاشتغال فيه من باب الشك في حصول الغرض وسقوط الوجوب- وحكمه كالسابق، قال السيد الشهيد الصدر بعد أن تعرّض لهذه الصور بالبحث: «وقد تحصّل من مجموع ما تقدّم في هذا البحث أنّه متى ما كان لدليل الأمر الواقعي إطلاق فمقتضى القاعدة عدم إجزاء الحكم الظاهري، ولزوم الاعادة داخل‌ الوقت والقضاء خارجه في غالب الفروض، وبنحو الاحتياط في بعضها، ما لم يرد مخصّص لمقتضى القاعدة، أي لإطلاق دليل الحكم الواقعي، كما ورد في الصلاة حديث «لا تعاد»، أو لم يكن دليل الحكم الواقعي مطلقاً كما في الأدلّة اللبّية على بعض الأجزاء والشرائط، والتي قد لا تشمل حالة تبدّل الحكم والوظيفة اجتهاداً أو تقليداً». [۵۶]
ثالثاً- تطبيقات فقهية لمسألة الإجزاء:
۱- إجزاء اتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به الواقعي الاختياري:
أ- حكم إعادة الصلاة لو زال العذر المسوّغ للتيمم داخل الوقت:
من التطبيقات المهمّة في مسألة إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي الاختياري هو حكم التيمم لفاقد الماء، أو المعذور من استعماله، وحكم إعادة الصلاة التي صلّاها بهذا التيمم بعد زوال العذر في داخل الوقت، وكذا حكم وجوب قضائها إذا زال العذر خارج الوقت وعدمه.
فمقتضى القاعدة الاجتزاء بالصلاة الواقعة مع التيمم الصحيح وعدم وجوب إعادتها مطلقاً، إلّا أن يدلّ عليه دليل تعبدي.
ويدلّ على عدم وجوب الاعادة مضافاً إلى ما قد يستفاد من أدلّة جواز البدار إلى الصلاة مع التيمم في أوّل الوقت أو أنّه أحد الطهورين روايات كثيرة، دلّت جملة منها صريحاً على عدم الاعادة إذا زال العذر سواء كان في الوقت أو خارجه، مثل صحيحة عبيد اللَّه الحلبي: «أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل إذا أجنب ولم يجد الماء؟ قال: يتيمم بالصعيد فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصلاة»، [۵۷] وحسنة الحلبي: «قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: إذا لم يجد الرجل طهوراً وكان جنباً فليتمسح من الأرض وليصلّ، فإذا وجد ماءً فليغتسل، وقد أجزأه صلاته التي صلّى»، [۵۸] ونحوهما صحيحة العيص [۵۹] عن أبي عبد اللَّه عليه السلام وصحيحة محمّد بن‌ مسلم [۶۰] عنه عليه السلام، وبعضها صريح في عدم الإعادة ولو عند وجدان الماء في الوقت، ومنها أيضاً يفهم حكم ما لو وجد الماء خارج الوقت بالفحوى والأولوية. قال المحقق اليزدي: «لا يجب إعادة الصلوات التي صلّاها بالتيمّم الصحيح بعد زوال العذر، لا في الوقت ولا في خارجه مطلقاً». [۶۱] وقد احتاط البعض بالإعادة إذا كان زوال العذر في الوقت. [۶۲]
والتفصيل فيه يراجع بحث (تيمّم).
ب- حكم إعادة الصلاة الاضطرارية في الأعذار الاخرى غير التيمم:
لا إشكال في صحّة الصلاة الاضطرارية مع استيعاب العذر تمام الوقت، كالصلاة من جلوس لمن لا يتمكّن من القيام، فإنّه قد ثبت أنّ الصلاة لا تسقط بحال، وأنّه يجب على المكلّف الصلاة من جلوس أو مستلقياً إذا لم يتمكن من الصلاة قائماً، كما لا يجب عليه القضاء إذا زال العذر خارج الوقت، إمّا لأنّه لازم الأمر الاضطراري، أو لكون القضاء بأمر جديد ومع الشك فيه يكون مقتضى الأصل عدمه.
وأمّا إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت بعد أداء العمل الاضطراري فالإجزاء فيه بمعنى عدم وجوب الاعادة مبني على استفادة ذلك من جواز البدار أو عدمه لذوي الأعذار غير المتيمم.
وقد منع البعض البدار لذوي الأعذار، وأوجب التأخير والانتظار إلى آخر وقت الفريضة. [۶۳] [۶۴] [۶۵]
ولعلّه لأنّ العذر المسوّغ للصلاة العذرية هو الذي يستوعب الوقت كله، نظراً إلى أنّ المأمور به هو الطبيعي الواقع فيما بين المبدأ والمنتهى، فإذا تمكّن المكلّف من الصلاة الاختيارية في أي جزء من أجزاء ذلك الوقت فلا يكون مضطراً إلى الصلاة العذرية (الفاقدة لشي‌ء من الأجزاء والشرائط الاختيارية).
ومن المعلوم أنّ الصلاة العذرية غير مشروعة إلّا مع العجز عن الصلاة التامة الاختيارية في مجموع الوقت المضروب لها.
وقد جوّز البعض البدار [۶۶] وتقديم الصلاة في أوّل الوقت لذوي الأعذار مع اليأس عن ارتفاع العذر، بل مع رجائه أيضاً في غير المتيمم حسبما يقتضيه الحكم الظاهري، لكنّه يعيد إذا زال العذر في الوقت، قال السيد الخوئي: «إنّ المكلّف إذا كان واجداً للعذر في أوّل وقت الصلاة واحتمل بقاءه إلى آخره كارتفاعه لم يكن أي مانع من التمسك باستصحاب بقاء العذر إلى منتهى وقت الصلاة- بناءً على جريان الاستصحاب في الامور الاستقبالية كما هو الصحيح- وبه يحرز أن العذر مستوعب للوقت كله، وهو كالعلم الوجداني ببقاء العذر كذلك، فيشرع له البدار والاتيان بالصلاة العذرية في أوّل الوقت، ثمّ إذا لم ينكشف له الخلاف واستمر العذر إلى منتهى الوقت فهو، وإذا ارتفع العذر قبل ذلك وجبت عليه الإعادة لعدم إجزاء الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية، والأمر الواقعي باق بعد بحاله فلا مناص من امتثاله... فلا مانع عن الحكم بمشروعية البدار في هذا القسم بالاستصحاب». [۶۷]
ج- حكم إعادة أجزاء الصلاة التي أدّاها المصلّي حال القيام أو الجلوس الاضطراريين إذا ارتفع عذره أثناء الصلاة:
انّ للمصلي باعتبار العجز والتمكّن حالات مختلفة، فقد يصلّي قائماً إن تمكن، وإن عجز عن القيام يتوجّه إليه الأمر الاضطراري بالصلاة جالساً أو مضطجعاً أو مستلقياً، ويختلف الحكم باختلاف هذه الأحوال (ويذكر تفصيلها في أفعال الصلاة).
وأحياناً لا تكون الصلاة بتمامها على حالة واحدة من المصلّي، فقد يكون عاجزاً ويصلّي باحدى الصور الاضطرارية ثمّ تتجدد القدرة في الأثناء بعد ما كان عاجزاً.
وهنا تارة يفرض الكلام في المسألة في ضيق الوقت بحيث لا يسع للاستئناف، واخرى في سعته. أمّا في حال ضيق الوقت فالذي عليه المشهور هو الاجتزاء بما صدر منه من البدل الاضطراري، والانتقال في بقية العمل إلى الوظيفة الاختيارية من دون حاجة إلى إعادة ما سبق؛ لأنّه أتى به حسب الوظيفة الفعلية، وأدلّة البدلية كما تعم مجموع العمل تشمل أبعاضه أيضاً، والمفروض استيعاب العذر لتمام الوقت لعدم التمكّن من الاستئناف وتدارك الصلاة بتمامها بعد فرض الضيق، فتكون هذه الصلاة ملفّقة من الوظيفتين الاختيارية والاضطرارية، إذ لا سبيل له لغير ذلك داخل الوقت، ومقتضى اطلاق الأدلّة صحّتها.
أمّا في حال سعة الوقت فمقتضى كلمات المشهور هو الاجتزاء أيضاً ولا إعادة، حيث ذكروا بأنّه مع تجدد القدرة يتم صلاته حسب الوظيفة الاختيارية ويجتزأ بها. [۶۸] [۶۹]
إلّا أنّه قد يناقش في ذلك؛ إذ مع الارتفاع في الأثناء تكون الطبيعة مقدورة، فلا مجال للانتقال إلى البدل، فزوال العذر في الأثناء يكشف عن عدم كون الفرد الاضطراري المأتي به مصداقاً للمأمور به، فلا بد من استئناف الصلاة كما هو مقتضى القاعدة في المقام.
قال السيد الخوئي: «كأنّهم اعتمدوا في ذلك على استفادة الاطلاق من أدلّة البدلية، فالجزء الاضطراري مجزٍ سواء تمكن من الاستئناف لسعة الوقت أم لا، لكنك عرفت النقاش في ثبوت هذا الاطلاق... ولذا لم نقل بإجزاء الأوامر الاضطرارية عن الواقعية، وإن قلنا بجواز البدار لذوي الأعذار.
فالتحقيق في المقام أن يقال: إنّ من تجدّدت له القدرة أثناء الصلاة إمّا أن يتمكّن من التدارك من دون حاجة إلى الإعادة أو لا، فالأول كما لو كبّر قائماً وهو قادر ثمّ طرأ العجز فجلس وقرأ، ثمّ تجدّدت القدرة فقام قبل الركوع، فإنّ هذه الصلاة لا نقص فيها إلّا من حيث وقوع القراءة حال الجلوس فيتداركها ويعيدها قائماً، ولا يلزم منه إلّا زيادة القراءة والجلوس، وهي زيادة غير مبطلة؛ لكونه‌ معذوراً فيها، فيشملها حديث (لا تعاد).
وأمّا الثاني، أعني ما يتوقّف التدارك على الاعادة، فإن كان ذلك من جهة استلزام التدارك زيادة الركن وجبت، كما لو تجدّدت القدرة بعد الركوع، فإنّ الوظيفة حينئذ الاتيان بالركوع القيامي، فإن أتى به لزم زيادة الركوع لتكرره، وإن اقتصر على ما أتى به لزم الاخلال بالوظيفة الفعلية، فلا مناص من الاعادة.
وأمّا إذا كان ذلك من جهة الاخلال بالقيام غير الركني، كما لو طرأ العجز وهو في الركوع القيامي فجلس- سواء سجد أم لا- ثمّ تجدّدت القدرة، فإنّه قد أخلّ بالقيام الواجب بعد الركوع، وهو وإن لم يكن ركناً إلّا انّه لا يسعه التدارك؛ لأنّ الواجب هو القيام المتصل بالركوع (أعني رفع الرأس عنه منتصباً لا مطلق القيام)، وهذا لا يمكن تحصيله فعلًا إلّا باعادة الركوع المستلزم لزيادة الركن، فمقتضى القاعدة حينئذ هو الإعادة، إلّا أنّ مقتضى حديث (لا تعاد) عدمها؛ لعدم كون القيام من الخمسة المستثناة، فلأجل ذلك يحكم بالصحة وسقوط اعتبار القيام بعد الركوع في هذا الحال». [۷۰]
د- المسح على الحائل في الوضوء اضطراراً ووضوء الجبيرة وإجزاؤه عن الوضوء الاختياري:
من المتفق عليه بين الفقهاء أنّ مقتضى الأخبار الآمرة بمسح الرأس في الوضوء، بل مقتضى الآية المباركة «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» أيضاً لزوم كون المسح واقعاً على بشرة الرأس بالمعنى الشامل لها ولشعرها. فإذا عجز المكلّف عن ايقاع المسح على البشرة، فقد يقال بأنّ في الأدلّة ما جوّز المسح على الحائل في بعض الموارد، كالدواء الملصق بالبشرة، وموارد التقية والاضطرار، حيث دلّت بعضها على أنّ المسح على الحائل مجزٍ في مقام الاضطرار، ويكون المسح على الحائل والحال هذه كالمسح على نفس البشرة، وكذا حكم المسح على القدمين.
وكذا الأمر بالنسبة لوضوء الجبيرة وإجزائه عن الوضوء الاختياري.
وقد وقع الكلام في الإجزاء إذا ارتفع‌
العذر، وأنّه هل يجب على المكلّف إعادة الصلاة التي صلاها بالأمر الاضطراري، وحكم الإعادة إذا كان ارتفاع العذر داخل وقت الفريضة.
ولا إشكال‌ في عدم وجوب الاعادة في صورة ارتفاع العذر بعد خروج وقت الفريضة؛ إذ لو لا صحّة الصلاة المأتي بها مع الوضوء جبيرة أو المسح فيها على الحائل اضطراراً في وقتها، لم يكن معنى للأمر بها، وقد تقدم توضيحه.
أمّا إذا ارتفع عذره قبل خروج وقت الفريضة، فقد يفرض الكلام فيما إذا توضأ جبيرة معتقداً بقاء عذره إلى آخر الوقت أو باستصحاب بقائه كذلك، أو رُخّص له البدار فصلّى، ثمّ ارتفع عذره قبل خروج وقت الصلاة، فقال البعض في هذه الصورة بوجوب الإعادة، [۷۱] [۷۲] وذلك لأنّ الاكتفاء بوضوء الجبيرة على خلاف القاعدة التي تقتضي وجوب التيمم في كل مورد عجز فيها المكلّف عن الوضوء، ويخرج عنه بمورد النص وهو ما إذا لم يتمكّن المكلّف من الوضوء التام في مجموع الوقت، وحيث أنّ المأمور به هو الطبيعي الجامع بين المبدأ والمنتهى، فبارتفاع عذره في أثناء الوقت نستكشف تمكّنه من الوضوء التام، وعدم كونه معذوراً في الاتيان بالوضوء الناقص.
واختار البعض الآخر عدم وجوب الاعادة [۷۳] وإن كان ارتفاع العذر في داخل وقت الفريضة.
وقد يفرض في موارد التقيّة، كما إذا زال السبب المسوّغ للمسح على الحائل تقية في أثناء الوضوء- أي قبل المسح على الخفّين مثلًا- فلا إشكال في عدم جواز التقية بالمسح على الخفّين؛ حيث لا موجب للتقية عند المسح على الفرض، فيجب عليه الاتيان بالمأمور به الأولي (الاختياري) بأن يمسح على رجليه.
فإن كان زوال العذر بعد الوضوء وكانت البلّة موجودة ولم تكن الموالاة فائتة وجب على المكلّف المسح على رجليه؛ لأنّه اتمام للوضوء الواجب، وقد فرضنا أنّه لا مانع من اتمامه لارتفاع التقية وبقاء محلّ المسح فيجب.
وإذا كانت البلّة غير باقية أو الموالاة مرتفعة بحيث احتاج تحصيل الوظيفة الأولية إلى الاعادة، حكم البعض بعدم وجوب الاعادة عليه حسبما يستفاد من أدلّة العمل بالتقية، وأنّها مجزّأة ولا تجب معها الاعادة أو القضاء. [۷۴] [۷۵]
واختار البعض الآخر لزوم الاعادة، أو قال بالاحتياط فيه. [۷۶]
ويراجع تفصيل كل هذه المسائل في محالّها من الموسوعة (انظر: وضوء، تيمم).
۲- تطبيقات في إتيان المأمور به بالأمر الظاهري والقول بالإجزاء:
أ- موارد تبدّل رأي المجتهد، أو العدول من مجتهد إلى مجتهد آخر يخالفه في الرأي:
تقدّم الكلام في مصطلح (اجتهاد) في مسألة (الاجتهاد والإجزاء عن الواقع)») وبناءً على ما التزم به فقهاؤنا من القول بالتخطئة، وأنّ الفقيه في استنباطه للحكم الشرعي قد يصيب الواقع وقد يخطئ.
ويتبع ذلك الكلام في إجزاء الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية على تقدير خطئها وعدمه، كما في موارد تبدل رأي المجتهد، أو عدول المقلّد من مجتهد إلى مجتهد آخر يخالف الأوّل في الفتوى.
وقد ذكرنا آنفاً وقوع الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة، حيث ذهب البعض إلى القول بالإجزاء مطلقاً، [۷۷] [۷۸] [۷۹] في حين ذهب البعض الآخر إلى عدم الإجزاء مطلقاً، [۸۰] [۸۱] [۸۲] [۸۳] واختار آخرون القول بالتفصيل حيث قالوا بالإجزاء في العبادات والمعاملات بالمعنى الأخص (أي العقود والايقاعات) وبعدمه في غيرهما من الأحكام الوضعية والتكليفية، [۸۴] أو التفصيل بين القضاء حيث قالوا فيه‌بالإجزاء وبين الأداء فحكموا بعدم الإجزاء فيه.
وقد ذكرنا هنالك أيضاً بأنّ القول بالتفصيل في المقام لا أساس له، ولذا ذهب معظم الفقهاء المتأخّرين إلى عدم الإجزاء؛ [۸۵] [۸۶] [۸۷] [۸۸] لأنّ الصحّة إنّما تنتزع عن مطابقة العمل للمأمور به، فإذا فرض عدم مطابقته حكم ببطلان العمل، والحكم بإجزاء غير الواقع عن الواقع يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه في المقام.
وقد يقال بأنّ الإجزاء هو المطابق للقاعدة، واستدل عليه بوجوه استعرضها السيد الخوئي [۸۹] وناقش فيها بما مفاده:
الوجه الأوّل:
أنّ انكشاف الخلاف إذا كان بقيام حجّة معتبرة على الخلاف- لا علم بكون الاجتهاد السابق على خلاف الواقع- فالاجتهاد السابق كاللّاحق، فكما يحتمل أن يكون الاجتهاد الثاني مطابقاً للواقع، كذلك يحتمل أن يكون الاجتهاد الأوّل كذلك فهما متساويان، وإن كان على المجتهد وعلى مقلّديه أن يطبقوا أعمالهم على الاجتهاد اللّاحق دون السابق.
وهذا لأنّ الاجتهاد اللّاحق لا يكشف عن عدم حجّية الاجتهاد السابق في ظرفه؛ لأنّ انكشاف الخلاف في الحجّية أمر غير معقول، بل هو يسقط السابق عن الحجّية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه على حجيته في ظرفه، وعليه فالتبدل في الحجّية من التبدل في الموضوع، ومعه لا وجه لبطلان الأعمال المتقدمة المطابقة مع الاجتهاد السابق؛ لكونها صادرة على طبق الحجّة الفعلية في زمانها.
ويرد عليه: إنّ الدعوى المتقدّمة وإن كانت صحيحة في نفسها إلّا أنّ الإجزاء في المقام لا يترتب عليها بوجه؛ وذلك لأنّ قيام الحجّة الثانية وإن كان لا يستكشف به عدم حجّية الاجتهاد الأوّل في ظرفه، إلّا أنّ مقتضى الحجّة الثانية ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من الابتداء؛ لعدم اختصاصه بعصر دون عصر، إذاً العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل‌ لأنّه مقتضى الحجّة الثانية، ومعه لا بد من إعادته أو قضائه.
واحتمال المخالفة مع الواقع وإن كان تشترك فيه الحجّتان، إلّا أنّ هذا الاحتمال يلغى في الحجة الثانية حسب أدلّة اعتبارها، ولا يكفي في الاولى لسقوطها عن الاعتبار. ومجرد احتمال المخالفة يكفي في الحكم بالاعادة أو القضاء؛ لأنّه لا مؤمّن معه من العقاب، وحيث أنّ العقل مستقل بلزوم تحصيل المؤمن فلا مناص من الحكم بوجوب الإعادة على طبق الحجّة الثانية؛ لأنّ بها يندفع احتمال العقاب.
وأمّا القضاء فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ مقتضى الحجّة الثانية مخالفة ما أتى به المكلّف على طبق الحجّة السابقة للواقع وبطلانه، ومعه يصدق فوت الفريضة وهو يقتضي وجوب القضاء.
الثاني:
إنّ الأحكام الوضعية- الأعم مما في موارد المعاملات بالمعنى الأعم والمعاملات بالمعنى الأخص- إنّما تتعلّق بحسب الغالب على الأجسام والموضوعات الخارجية، ومن الظاهر أنّ الجسم الخارجي لا معنى لقيام المصلحة به حتى تكون الأحكام الوضعية ثابتة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فلا مناص من أن تكون تابعة للمصالح في جعلها واعتبارها، فإذا أدت الحجّة- مثلًا- إلى أنّ المعاطاة مملّكة أو أنّ الصيغة بغير العربية كافية في العقود، فقد وجدت المصلحة في جعل الملكية في المعاطاة أو الزوجية في العقد غير العربي وهكذا.
فإذا قامت الحجّة الثانية على أنّ المعاطاة مفيدة للاباحة أو أنّ العربية معتبرة في الصيغة، لم يستكشف بذلك أنّ الملكية في المعاطاة أو الزوجية في العقد الفارسي مثلًا غير متطابقين مع الواقع، وذلك لأنّ الأحكام الوضعية لا واقع لها سوى أنفسها، والمفروض أنّها تتحقق بقيام الحجّة الاولى، فلا يستكشف بسببها أنّ جعل الملكية في المعاطاة لم يكن على وفق المصلحة؛ إذ لو لم تكن هناك مصلحة تدعو إلى جعلها واعتبارها لم يمكن للشارع أن يعتبرها بوجه.
نعم، يستكشف بالحجّة الثانية أنّ المصلحة من لدن قيامها إنّما هي في جعل‌ الاباحة في المعاطاة لا في جعل الملكية، أو أنها في جعل الزوجية في العقد العربي لا الفارسي، فقيام الحجّة الثانية على الخلاف إنّما هو من باب التبدل في الموضوع وليس من باب انكشاف الخلاف في السابقة باللّاحقة. فلا مناص من الالتزام بالإجزاء في الأحكام الوضعية.
وأمّا الأحكام التكليفية فهي وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ويتصور فيها كشف الخلاف، إلّا أنّ الحجّة الثانية إنّما تتصف بالحجّية بعد انسلاخ الحجّية عن السابقة- بموت المجتهد أو بغيره من الأسباب- فالحجّة الثانية لم تكن بحجة في ظرف الحجّة السابقة، وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحيل أن تكون الحجة المتأخرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة عليها بزمان الصادرة على طبق الحجّة السابقة.
نعم، هي تكون مؤثرة بالاضافة إلى الأفعال التي يصدرها المكلّف بعد اتصاف الثانية بالاعتبار؛ لأنّها لو لم تكن مطابقة معها بطلت. أمّا الأعمال الصادرة قبل اتصافها بالحجّية فلا يعقل أن تكون مؤثرة فيها بوجه؛ لأنّ حجّيتها حادثة وليس لها وجود في ظرف صدور الأعمال المتقدّمة ليجب إعادتها أو قضاؤها طبقاً للّاحقة.
وعليه فلا مناص من الالتزام في الأحكام التكليفية أيضاً بالإجزاء.
والجواب عنه: أمّا في الأحكام الوضعية فإنّها وإن كانت تابعة للمصالح في جعلها ولا واقع لها إلّا أنفسها، ولا يتصور فيها انكشاف الخلاف بعد تحقّقها، إلّا أنّ الكلام في أنّها هل تحقّقت من الابتداء أم لم تتحقّق، وأنّ المعاطاة الصادرة في الزمان المتقدم هل أفادت الملكية أم لا؟ حيث أنّ المكلّف بعد سقوط الحجّة السابقة عن الحجّية واتصاف الثانية بها- الدالّة على إفادة المعاطاة للاباحة- يشك في أنّ الملكية هل حصلت بالمعاطاة الصادرة منه أم لم تحصل، والحجّة الثانية تكشف عن عدم حصول الملكية من الابتداء؛ لأنّها تخبر عن عدم جعل الملكية بسبب المعاطاة في الشريعة؛ لعدم الفرق في مدلولها بين الزمان السابق واللّاحق. وعليه فحال الأحكام الوضعية حال الأحكام التكليفية بعينها، ولا تختص الأحكام الوضعية بوجه.
وأمّا الأحكام التكليفية فإنّ المكلّف بعد ما سقطت الحجّة السابقة عن حجّيتها واتصفت الثانية بالاعتبار يشك في وجوب إعادة الأعمال التي أتى بها على طبق الحجّة السابقة أو قضائها؛ إذ لا علم له بمطابقتها للواقع، وحيث لم يحرز مطابقتها إحرازاً وجدانياً، فلا بد من أن يحرزها بالحجّة التعبدية، وليست الحجّة عليه هي السابقة لسقوطها عن الاعتبار، وليس له أن يعتمد عليها بعد قيام الحجّة الثانية، فيتعين أن تكون هي الحجّة المتأخّرة؛ لاعتبارها في حقّه، وبما أنّها تدل على بطلان الحجة الاولى وعدم كونها مطابقة مع الواقع، فيجب إعادتها أو قضاؤها.
وما افيد في هذا الوجه من أنّ الحجّة المتأخّرة لا يعقل تأثيرها في الأعمال المتقدمة عليها، يرد عليه نقضاً: بما إذا فرضنا رجلين فاسقين تابا واتصفا بالعدالة، فشهدا على ملكية شي‌ء لشخص منذ اسبوع، أو بنجاسته من أوّل الشهر الماضي، أو بزوجية امرأة من السنة الماضية، فهل ترد شهادتهما؟ نظراً لما ذكر في الوجه من أنّ الشهادة المتأخّرة عن تلك الامور لا يعقل أن تؤثر في الامور السابقة عليها.
وحلّاً: إن كان المراد من أنّ الحجّة المتأخّرة لا يعقل تأثيرها في الأعمال السابقة هو أنّها لا تؤثر في بطلانها ولا يقلب الصحيح باطلًا فلا ينبغي التأمل في صحّته، بل الأمر كذلك حتى في الحجّة المتقارنة فضلًا عن المتأخّرة؛ وذلك لأنّ المدار في الصحة والبطلان إنّما هو مطابقة المأتي به مع الواقع وعدمها دون الحجّة المقارنة أو المتأخّرة.
وإن اريد به أنّ الحجّة المتأخّرة غير مؤثرة في الأعمال المتقدّمة ولو بالكشف عن مطابقتها مع الواقع وعدمها فهو أمر مخالف للوجدان؛ لأنّ مدلول الحجّة المتأخّرة غير مختص بعصر دون عصر.
فالحجّة المتأخرة تكشف عن بطلان الأعمال السابقة ووجوب اعادتها أو قضائها لعدم مطابقتها مع الواقع.
الثالث:
أنّ قضاء العبادات السابقة- على كثرتها- أمر عسير وموجب للحرج على المكلّفين وهما (العسر والحرج) منفيان في الشريعة المقدسة؛ وذلك لأنّ العمل طبق الحجّة السابقة قد يطول وقد يستغرق أكثر العمر، كما إذا عدل عن فتوى‌مقلّده بموت أو بغيره من الأسباب المسوّغة في أواخر عمره، وقلّد مجتهداً يرى بطلان أعماله المتقدّمة، ولا شبهة في أنّ قضاء كل تلك الأعمال أمر حرجي.
وفيه: أنّ هذا الوجه لو تمّ فإنّما يتم في القضاء ولا يأتي في الاعادة داخل الوقت؛ لأنّه في مثل الصلاة إذا عدل إلى فتوى المجتهد الذي يرى بطلانها- ولم يفت وقت الصلاة- لم يكن في إعادتها حرج بوجه.
نعم، قد يتحقّق الحرج في الحج لو قلنا بوجوب اعادتها والاتيان به مطابقاً لفتوى المجتهد الثاني.
كما أنّه قد ذكر في محلّه أنّ الحرج كالضرر المنفيين في الشريعة المدار فيهما إنّما هو على الحرج والضرر الشخصيين لا النوعيين. والحرج الشخصي أمر يختلف باختلاف الموارد والأشخاص.
فكلّ مورد لزم فيه من الحكم بوجوب الاعادة أو القضاء حرج على المكلّف، فلا مناص من أن يلتزم بعدم وجوبهما، كما إذا لزم منه وجوب قضاء العبادة خمسين سنة مثلًا.
وأمّا الموارد التي لا يلزم فيها من الحكم بوجوبهما حرج على المكلّف فلا مقتضي للحكم بعدم وجوب الاعادة أو القضاء، كما إذا بنى على أنّ التيمم ضربة واحدة فتيمم وصلّى ثمّ عدل عن ذلك غداً، فبنى على أنّه ضربتان، فمن الواضح أنّ قضاء عبادة يوم واحد ممّا لا عسر فيه ولا حرج، ومعه لا موجب لنفي وجوب الإعادة أو القضاء.
الرابع:
دعوى الإجماع على أنّ العمل المأتي به على طبق الحجّة الشرعية لا تجب اعادته ولا قضاؤه إذا قامت حجّة اخرى على خلافها. نعم لا إجماع على الإجزاء في الأحكام الوضعية عند بقاء موضوعها إلى ظرف الحجّة المتأخّرة، كما إذا ذبح حيواناً بغير الحديد- لجوازه على رأي مقلّده- ثمّ عدل إلى فتوى من لا يرى جوازه والذبيحة بحالها، أو انّه اشترى داراً بالمعاطاة ولا يرى المجتهد الثاني انتقال‌ البيع بها لاشتراطه الصيغة في صحته إلى غير ذلك من الموارد.
ويجاب عنه: أنّ الإجماع المدعى لو كان محصّلًا لم نكن نعتمد عليه- لإمكان استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدل بها في المقام فلا يكون تعبدياً كاشفاً عن رأي الإمام عليه السلام- فكيف به إذا كان إجماعاً منقولًا بالخبر الواحد، وكيف يمكن استكشاف قوله عليه السلام في المقام ولم يتعرض أكثر الأصحاب للمسألة ولم يعنونوها في كلماتهم؟! الخامس:
قيام سيرة المتشرعة على عدم وجوب الاعادة أو القضاء في موارد العدول والتبدل في الاجتهاد، حيث لم يعهد أن يعيد أحد أو يقضي ما أتى به من العبادات طيلة حياته إذا عدل عن رأيه أو عن فتوى مقلّده، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة، فلا مناص من الالتزام بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء عند قيام حجّة على الخلاف.
وفيه: إنّ موارد قيام الحجّة على الخلاف وبطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجّة السابقة- كما إذا كانت فاقدة لركن من الأركان- من القلّة بمكان، وليست من المسائل عامة البلوى ليستكشف فيها سيرة المتشرعة وأنّهم بنوا على الإجزاء في تلك الموارد أو على عدمه.
على أنّا لو سلّمنا استكشاف السيرة بوجه فمن أين يمكننا احراز اتصالها بزمن المعصومين عليهم السلام، ومن الممكن أن تكون السيرة مستندة إلى فتوى جماعة من الفقهاء.
ولو أنّ المسألة كانت عامة البلوى في عصرهم عليهم السلام لسئل عن حكمها ولو في رواية واحدة، وحيث لم يشار إلى المسألة في شي‌ء من النصوص نستكشف بذلك أنّ كثرة الابتلاء بها حدث في الأزمنة المتأخّرة عن عصرهم عليهم السلام، فالسيرة على تقدير تحقّقها غير محرزة الاتصال بعصرهم ولا سبيل معه إلى إحراز الامضاء من قبلهم عليهم السلام.
إذاً يترتب على ما تقدّم أنّ مقتضى القاعدة وجوب الإعادة أو القضاء عند قيام الحجّة على الخلاف، اللّهم إلّا في الصلاة إذا كان الإخلال بغير الوقت والقبلة والركوع والسجود والطهور وذلك لحديث (لا تعاد) بناءً على شموله للجاهل القاصر أيضاً.
أجفان‌ (انظر: جفن)




المراجع [تعديل]

۱. مقاييس اللغة، ج۱، ص۴۵۵.
۲. لسان العرب، ج۱، ص۴۶.
۳. الصحاح، ج۱، ص۴۰.
۴. السرائر، ج۱، ص۲۲۵.    
۵. الذكرى، ج۱، ص۲۰۱.    
۶. الدروس، ج۱، ص۳۹.    
۷. مفاتيح الشرائع، ج۱، ص۴۴.
۸. كتاب الطهارة (الگلبايگاني)، ج۱، ص۹۴.
۹. مدارك الأحكام، ج۳، ص۴۰۵.
۱۰. روض الجنان، ج۱، ص۲۷۵.
۱۱. المقاصد العلية، ج۱، ص۱۵۲.
۱۲. الحبل المتين، ج۱، ص۲۴۲.    
۱۳. كفاية الأحكام، ج۱، ص۱۹.    
۱۴. الحدائق، ج۸، ص۲۸۰.    
۱۵. عوائد الأيّام، ج۱، ص۳۳۰ (ط.
۱۶. ج).
۱۷. مدارك الأحكام، ج۳، ص۴۰۵.
۱۸. التذكرة، ج۸، ص۳۳۷.    
۱۹. مفاتيح الشرائع، ج۱، ص۴۴.
۲۰. الحبل المتين، ج۱، ص۳۴.    
۲۱. الحبل المتين، ج۱، ص۲۵۰.    
۲۲. الحدائق الناضرة، ج۲، ص۲۶۳.
۲۳. الرياض، ج۳، ص۴۷۱.    
۲۴. ذخيرة المعاد، ج۲، ص۲۸۵.
۲۵. مستند الشيعة، ج۴، ص۵۱۹.    
۲۶. عوائد الأيّام، ج۱، ص۳۳۰- ۳۳۱.
۲۷. جواهر الكلام، ج۹، ص۱۹.    
۲۸. كتاب الصلاة، ج۲، ص۱۶.
۲۹. مستند العروة الوثقى (الصلاة)، ج۲، ص۲۵۹.
۳۰. كتاب الطهارة، ج۱، ص۱۳۰.
۳۱. إحداهما معتبرة أبي مريم الأنصاري قال: صلّى بنا أبو جعفر عليه السلام في قميص بلا إزار ولا رداء ولا أذان ولا إقامة،.
۳۲. إلى أن قال: فقال: وإني مررت بجعفر وهو مؤذن ومقيم، فلم أتكلم فأجزأني ذلك.
۳۳. الوسائل، ج۵، ص۴۳۷، ب ۳۰ من أبواب الأذان والاقامة، ح ۲.    
۳۴. الرياض، ج۳، ص۳۴۶.    
۳۵. جواهر الكلام، ج۲، ص۱۲۷.    
۳۶. مدارك الأحكام، ج۸، ص۸۶.
۳۷. ذخيرة المعاد، ج۱، ص۶۷۹.
۳۸. مستند الشيعة، ج۴، ص۵۲۸.    
۳۹. مستند الشيعة، ج۲، ص۳۷۱.    
۴۰. ق/سورة ۵۰، الآية ۶۴۱، (ط.    
۴۱. ق).
۴۲. صلاة الجماعة، ج۱، ص۱۴۴.
۴۳. مستند العروة (الصلاة)، ج۲، ص۳۴۳.
۴۴. جواهر الكلام، ج۹، ص۱۴۰.    
۴۵. صلاة الجماعة، ج۱، ص۱۵۱.
۴۶. التنقيح في شرح العروة (الطهارة)، ج۵، ص۴۹۲.
۴۷. معتمد العروة الوثقى (الحج)، ج۱، ص۴۶.
۴۸. جواهر الكلام، ج۲، ص۱۱۵.    
۴۹. الوسائل، ج۳، ص۳۸۱، ب ۲۱ من التيمم، ح ۱.    
۵۰. الوسائل، ج۳، ص۳۸۶، ب ۲۳ من التيمم، ح ۵.    
۵۱. الوسائل، ج۳، ص۳۶۹، ب ۱۴ من التيمّم، ح ۱۲.    
۵۲. بحوث في علم الاصول، ج۲، ص۱۴۰- ۱۵۶.
۵۳. كفاية الاصول، ج۱، ص۱۳۳- ۱۳۴.
۵۴. نهاية الدراية، ج۱، ص۱۵۲- ۱۵۳.
۵۵. )، ج۱، ص۲۳۵- ۲۳۶.
۵۶. بحوث في علم الاصول، ج۲، ص۱۵۵- ۱۶۹.
۵۷. الوسائل، ج۳، ص۳۶۶، ب ۱۴ من التيمم، ح ۱.    
۵۸. الوسائل، ج۳، ص۳۶۷، ب ۱۴ من التيمم، ح ۴.    
۵۹. الوسائل، ج۳، ص۳۷۰، ب ۱۴ من التيمم، ح ۱۶.    
۶۰. الوسائل، ج۳، ص۳۷۰، ب ۱۴ من التيمم، ح ۱۵.    
۶۱. العروة الوثقى، ج۲، ص۲۲۰.    
۶۲. العروة الوثقى، ج۲، ص۲۲۰ (التعليقة رقم ۲).    
۶۳. تراث الشيخ الأعظم (الصلاة)، ج۶، ص۲۸۹.
۶۴. تراث الشيخ الأعظم (الصلاة)، ج۶، ص۵۴۶.
۶۵. العروة الوثقى، ج۲، ص۲۶۷.    
۶۶. المنهاج (الخوئي)، ج۱، ص۱۳۴.    
۶۷. التنقيح في شرح العروة (الصلاة)، ج۱، ص۴۳۵.
۶۸. العروة، ج۲، ص۴۸۹.
۶۹. ونقل الشهرة المحقق العراقي في حاشيته على العروة.
۷۰. مستند العروة الوثقى (الصلاة)، ج۳، ص۲۷۱- ۲۷۶.
۷۱. التنقيح في شرح العروة (الطهارة)، ج۵، ص۲۶۱.
۷۲. العروة الوثقى، ج۱، ص۳۹۵، (الحكيم).    
۷۳. العروة الوثقى، ج۱، ص۴۸۳.    
۷۴. العروة الوثقى وحواشيها، ج۱، ص۳۹۵.
۷۵. التنقيح في شرح العروة (الطهارة)، ج۴، ص۳۳۱- ۳۳۲.
۷۶. حاشية العروة الوثقى، ج۱، ص۳۹۵.
۷۷. هداية المسترشدين، ج۱، ص۴۸۸.
۷۸. كشف الغطاء، ج۱، ص۱۳۳.
۷۹. الطهارة (تراث الشيخ الأعظم)، ج۲، ص۵۸۱- ۵۸۲.
۸۰. القضاء (الآشتياني)، ج۱، ص۵۴.
۸۱. أجود التقريرات، ج۱، ص۱۹۸- ۲۰۰.
۸۲. نهاية الأفكار، ج۲، ص۲۳۸.
۸۳. التنقيح في شرح العروة (الاجتهاد والتقليد)، ج۱، ص۵۱.
۸۴. العروة الوثقى، ج۱، ص۴۱، م ۵۳.    
۸۵. أجود التقريرات، ج۱، ص۱۹۸- ۲۰۰.
۸۶. التنقيح في شرح العروة (الاجتهاد والتقليد)، ج۱، ص۵۱.
۸۷. نهاية الأفكار، ج۲، ص۲۳۸.
۸۸. بحوث في علم الاصول، ج۲، ص۱۷۱.
۸۹. التنقيح في شرح العروة (الاجتهاد والتقليد)، ج۱، ص۵۱- ۶۲.


المصدر [تعديل]

الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۲۵۲-۲۷۶.   




أدوات خاصة
التصفح
جعبه‌ابزار