الإجزاء في الفقه
ثالثاً- تطبيقات فقهية لمسألة الإجزاء:
۱- إجزاء اتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به الواقعي الاختياري:
أ- حكم إعادة الصلاة لو زال العذر المسوّغ للتيمم داخل الوقت:
من التطبيقات المهمّة في مسألة إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي الاختياري هو حكم التيمم لفاقد الماء، أو المعذور من استعماله، وحكم إعادة الصلاة التي صلّاها بهذا التيمم بعد زوال العذر في داخل الوقت، وكذا حكم وجوب قضائها إذا زال العذر خارج الوقت وعدمه.
فمقتضى القاعدة الاجتزاء بالصلاة الواقعة مع التيمم الصحيح وعدم وجوب إعادتها مطلقاً، إلّا أن يدلّ عليه دليل تعبدي.
ويدلّ على عدم وجوب الاعادة مضافاً إلى ما قد يستفاد من أدلّة جواز البدار إلى الصلاة مع التيمم في أوّل الوقت أو أنّه أحد الطهورين روايات كثيرة، دلّت جملة منها صريحاً على عدم الاعادة إذا زال العذر سواء كان في الوقت أو خارجه، مثل صحيحة عبيد اللَّه الحلبي: «أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل إذا أجنب ولم يجد الماء؟ قال: يتيمم بالصعيد فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصلاة»،
[۱] وحسنة الحلبي: «قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: إذا لم يجد الرجل طهوراً وكان جنباً فليتمسح من الأرض وليصلّ، فإذا وجد ماءً فليغتسل، وقد أجزأه صلاته التي صلّى»،
[۲] ونحوهما صحيحة العيص
[۳] عن أبي عبد اللَّه عليه السلام وصحيحة محمّد بن
مسلم
[۴] عنه عليه السلام، وبعضها صريح في عدم الإعادة ولو عند وجدان الماء في الوقت، ومنها أيضاً يفهم حكم ما لو وجد الماء خارج الوقت بالفحوى والأولوية. قال المحقق اليزدي: «لا يجب إعادة الصلوات التي صلّاها بالتيمّم الصحيح بعد زوال العذر، لا في الوقت ولا في خارجه مطلقاً».
[۵] وقد احتاط البعض بالإعادة إذا كان زوال العذر في الوقت.
[۶]
والتفصيل فيه يراجع بحث (تيمّم).
ب- حكم إعادة الصلاة الاضطرارية في الأعذار الاخرى غير التيمم:
لا إشكال في صحّة الصلاة الاضطرارية مع استيعاب العذر تمام الوقت، كالصلاة من جلوس لمن لا يتمكّن من القيام، فإنّه قد ثبت أنّ الصلاة لا تسقط بحال، وأنّه يجب على المكلّف الصلاة من جلوس أو مستلقياً إذا لم يتمكن من الصلاة قائماً، كما لا يجب عليه القضاء إذا زال العذر خارج الوقت، إمّا لأنّه لازم الأمر الاضطراري، أو لكون القضاء بأمر جديد ومع الشك فيه يكون مقتضى الأصل عدمه.
وأمّا إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت بعد أداء العمل الاضطراري فالإجزاء فيه بمعنى عدم وجوب الاعادة مبني على استفادة ذلك من جواز البدار أو عدمه لذوي الأعذار غير المتيمم.
وقد منع البعض البدار لذوي الأعذار، وأوجب التأخير والانتظار إلى آخر وقت الفريضة.
[۷] [۸] [۹]
ولعلّه لأنّ العذر المسوّغ للصلاة العذرية هو الذي يستوعب الوقت كله، نظراً إلى أنّ المأمور به هو الطبيعي الواقع فيما بين المبدأ والمنتهى، فإذا تمكّن المكلّف من الصلاة الاختيارية في أي جزء من أجزاء ذلك الوقت فلا يكون مضطراً إلى الصلاة العذرية (الفاقدة لشيء من الأجزاء والشرائط الاختيارية).
ومن المعلوم أنّ الصلاة العذرية غير مشروعة إلّا مع العجز عن الصلاة التامة
الاختيارية في مجموع الوقت المضروب لها.
وقد جوّز البعض البدار
[۱۰] وتقديم الصلاة في أوّل الوقت لذوي الأعذار مع اليأس عن ارتفاع العذر، بل مع رجائه أيضاً في غير المتيمم حسبما يقتضيه الحكم الظاهري، لكنّه يعيد إذا زال العذر في الوقت، قال السيد الخوئي: «إنّ المكلّف إذا كان واجداً للعذر في أوّل وقت الصلاة واحتمل بقاءه إلى آخره كارتفاعه لم يكن أي مانع من التمسك باستصحاب بقاء العذر إلى منتهى وقت الصلاة- بناءً على جريان الاستصحاب في الامور الاستقبالية كما هو الصحيح- وبه يحرز أن العذر مستوعب للوقت كله، وهو كالعلم الوجداني ببقاء العذر كذلك، فيشرع له البدار والاتيان بالصلاة العذرية في أوّل الوقت، ثمّ إذا لم ينكشف له الخلاف واستمر العذر إلى منتهى الوقت فهو، وإذا ارتفع العذر قبل ذلك وجبت عليه الإعادة لعدم إجزاء الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية، والأمر الواقعي باق بعد بحاله فلا مناص من امتثاله... فلا مانع عن الحكم بمشروعية البدار في هذا القسم بالاستصحاب».
[۱۱]
ج- حكم إعادة أجزاء الصلاة التي أدّاها المصلّي حال القيام أو الجلوس الاضطراريين إذا ارتفع عذره أثناء الصلاة:
انّ للمصلي باعتبار العجز والتمكّن حالات مختلفة، فقد يصلّي قائماً إن تمكن، وإن عجز عن القيام يتوجّه إليه الأمر الاضطراري بالصلاة جالساً أو مضطجعاً أو مستلقياً، ويختلف الحكم باختلاف هذه الأحوال (ويذكر تفصيلها في أفعال الصلاة).
وأحياناً لا تكون الصلاة بتمامها على حالة واحدة من المصلّي، فقد يكون عاجزاً ويصلّي باحدى الصور الاضطرارية ثمّ تتجدد القدرة في الأثناء بعد ما كان عاجزاً.
وهنا تارة يفرض الكلام في المسألة في ضيق الوقت بحيث لا يسع للاستئناف، واخرى في سعته.
أمّا في حال ضيق الوقت فالذي عليه المشهور هو الاجتزاء بما صدر منه من البدل الاضطراري، والانتقال في بقية العمل إلى الوظيفة الاختيارية من دون حاجة إلى إعادة ما سبق؛ لأنّه أتى به حسب الوظيفة الفعلية، وأدلّة البدلية كما تعم مجموع العمل تشمل أبعاضه أيضاً، والمفروض استيعاب العذر لتمام الوقت لعدم التمكّن من الاستئناف وتدارك الصلاة بتمامها بعد فرض الضيق، فتكون هذه الصلاة ملفّقة من الوظيفتين الاختيارية والاضطرارية، إذ لا سبيل له لغير ذلك داخل الوقت، ومقتضى اطلاق الأدلّة صحّتها.
أمّا في حال سعة الوقت فمقتضى كلمات المشهور هو الاجتزاء أيضاً ولا إعادة، حيث ذكروا بأنّه مع تجدد القدرة يتم صلاته حسب الوظيفة الاختيارية ويجتزأ بها.
[۱۲] [۱۳]
إلّا أنّه قد يناقش في ذلك؛ إذ مع الارتفاع في الأثناء تكون الطبيعة مقدورة، فلا مجال للانتقال إلى البدل، فزوال العذر في الأثناء يكشف عن عدم كون الفرد الاضطراري المأتي به مصداقاً للمأمور به، فلا بد من استئناف الصلاة كما هو مقتضى القاعدة في المقام.
قال السيد الخوئي: «كأنّهم اعتمدوا في ذلك على استفادة الاطلاق من أدلّة البدلية، فالجزء الاضطراري مجزٍ سواء تمكن من الاستئناف لسعة الوقت أم لا، لكنك عرفت النقاش في ثبوت هذا الاطلاق... ولذا لم نقل بإجزاء الأوامر الاضطرارية عن الواقعية، وإن قلنا بجواز البدار لذوي الأعذار.
فالتحقيق في المقام أن يقال: إنّ من تجدّدت له القدرة أثناء الصلاة إمّا أن يتمكّن من التدارك من دون حاجة إلى الإعادة أو لا، فالأول كما لو كبّر قائماً وهو قادر ثمّ طرأ العجز فجلس وقرأ، ثمّ تجدّدت القدرة فقام قبل الركوع، فإنّ هذه الصلاة لا نقص فيها إلّا من حيث وقوع القراءة حال الجلوس فيتداركها ويعيدها قائماً، ولا يلزم منه إلّا زيادة القراءة والجلوس، وهي زيادة غير مبطلة؛ لكونه
معذوراً فيها، فيشملها حديث (لا تعاد).
وأمّا الثاني، أعني ما يتوقّف التدارك على الاعادة، فإن كان ذلك من جهة استلزام التدارك زيادة الركن وجبت، كما لو تجدّدت القدرة بعد الركوع، فإنّ الوظيفة حينئذ الاتيان بالركوع القيامي، فإن أتى به لزم زيادة الركوع لتكرره، وإن اقتصر على ما أتى به لزم الاخلال بالوظيفة الفعلية، فلا مناص من الاعادة.
وأمّا إذا كان ذلك من جهة الاخلال بالقيام غير الركني، كما لو طرأ العجز وهو في الركوع القيامي فجلس- سواء سجد أم لا- ثمّ تجدّدت القدرة، فإنّه قد أخلّ بالقيام الواجب بعد الركوع، وهو وإن لم يكن ركناً إلّا انّه لا يسعه التدارك؛ لأنّ الواجب هو القيام المتصل بالركوع (أعني رفع الرأس عنه منتصباً لا مطلق القيام)، وهذا لا يمكن تحصيله فعلًا إلّا باعادة الركوع المستلزم لزيادة الركن، فمقتضى القاعدة حينئذ هو الإعادة، إلّا أنّ مقتضى حديث (لا تعاد) عدمها؛ لعدم كون القيام من الخمسة المستثناة، فلأجل ذلك يحكم بالصحة وسقوط اعتبار القيام بعد الركوع في هذا الحال».
[۱۴]
د- المسح على الحائل في الوضوء اضطراراً ووضوء الجبيرة وإجزاؤه عن الوضوء الاختياري:
من المتفق عليه بين الفقهاء أنّ مقتضى الأخبار الآمرة بمسح الرأس في الوضوء، بل مقتضى الآية المباركة «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» أيضاً لزوم كون المسح واقعاً على بشرة الرأس بالمعنى الشامل لها ولشعرها. فإذا عجز المكلّف عن ايقاع المسح على البشرة، فقد يقال بأنّ في الأدلّة ما جوّز المسح على الحائل في بعض الموارد، كالدواء الملصق بالبشرة، وموارد التقية والاضطرار، حيث دلّت بعضها على أنّ المسح على الحائل مجزٍ في مقام الاضطرار، ويكون المسح على الحائل والحال هذه كالمسح على نفس البشرة، وكذا حكم المسح على القدمين.
وكذا الأمر بالنسبة لوضوء الجبيرة وإجزائه عن الوضوء الاختياري.
وقد وقع الكلام في الإجزاء إذا ارتفع
العذر، وأنّه هل يجب على المكلّف إعادة الصلاة التي صلاها بالأمر الاضطراري، وحكم الإعادة إذا كان ارتفاع العذر داخل وقت الفريضة.
ولا إشكال في عدم وجوب الاعادة في صورة ارتفاع العذر بعد خروج وقت الفريضة؛ إذ لو لا صحّة الصلاة المأتي بها مع الوضوء جبيرة أو المسح فيها على الحائل اضطراراً في وقتها، لم يكن معنى للأمر بها، وقد تقدم توضيحه.
أمّا إذا ارتفع عذره قبل خروج وقت الفريضة، فقد يفرض الكلام فيما إذا توضأ جبيرة معتقداً بقاء عذره إلى آخر الوقت أو باستصحاب بقائه كذلك، أو رُخّص له البدار فصلّى، ثمّ ارتفع عذره قبل خروج وقت الصلاة، فقال البعض في هذه الصورة بوجوب الإعادة،
[۱۵] [۱۶] وذلك لأنّ الاكتفاء بوضوء الجبيرة على خلاف القاعدة التي تقتضي وجوب التيمم في كل مورد عجز فيها المكلّف عن الوضوء، ويخرج عنه بمورد النص وهو ما إذا لم يتمكّن المكلّف من الوضوء التام في مجموع الوقت، وحيث أنّ المأمور به هو الطبيعي الجامع بين المبدأ والمنتهى، فبارتفاع عذره في أثناء الوقت نستكشف تمكّنه من الوضوء التام، وعدم كونه معذوراً في الاتيان بالوضوء الناقص.
واختار البعض الآخر عدم وجوب الاعادة
[۱۷] وإن كان ارتفاع العذر في داخل وقت الفريضة.
وقد يفرض في موارد التقيّة، كما إذا زال السبب المسوّغ للمسح على الحائل تقية في أثناء الوضوء- أي قبل المسح على الخفّين مثلًا- فلا إشكال في عدم جواز التقية بالمسح على الخفّين؛ حيث لا موجب للتقية عند المسح على الفرض، فيجب عليه الاتيان بالمأمور به الأولي (الاختياري) بأن يمسح على رجليه.
فإن كان زوال العذر بعد الوضوء وكانت البلّة موجودة ولم تكن الموالاة فائتة وجب على المكلّف المسح على رجليه؛ لأنّه اتمام للوضوء الواجب، وقد فرضنا أنّه لا مانع من اتمامه لارتفاع التقية وبقاء
محلّ المسح فيجب.
وإذا كانت البلّة غير باقية أو الموالاة مرتفعة بحيث احتاج تحصيل الوظيفة الأولية إلى الاعادة، حكم البعض بعدم وجوب الاعادة عليه حسبما يستفاد من أدلّة العمل بالتقية، وأنّها مجزّأة ولا تجب معها الاعادة أو القضاء.
[۱۸] [۱۹]
واختار البعض الآخر لزوم الاعادة، أو قال بالاحتياط فيه.
[۲۰]
ويراجع تفصيل كل هذه المسائل في محالّها من الموسوعة (انظر: وضوء، تيمم).
۲- تطبيقات في إتيان المأمور به بالأمر الظاهري والقول بالإجزاء:
أ- موارد تبدّل رأي المجتهد، أو العدول من مجتهد إلى مجتهد آخر يخالفه في الرأي:
تقدّم الكلام في مصطلح (اجتهاد) في مسألة (الاجتهاد والإجزاء عن الواقع)») وبناءً على ما التزم به فقهاؤنا من القول بالتخطئة، وأنّ الفقيه في استنباطه للحكم الشرعي قد يصيب الواقع وقد يخطئ.
ويتبع ذلك الكلام في إجزاء الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية على تقدير خطئها وعدمه، كما في موارد تبدل رأي المجتهد، أو عدول المقلّد من مجتهد إلى مجتهد آخر يخالف الأوّل في الفتوى.
وقد ذكرنا آنفاً وقوع الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة، حيث ذهب البعض إلى القول بالإجزاء مطلقاً،
[۲۱] [۲۲] [۲۳] في حين ذهب البعض الآخر إلى عدم الإجزاء مطلقاً،
[۲۴] [۲۵] [۲۶] [۲۷] واختار آخرون القول بالتفصيل حيث قالوا بالإجزاء في العبادات والمعاملات بالمعنى الأخص (أي العقود والايقاعات) وبعدمه في غيرهما من الأحكام الوضعية والتكليفية،
[۲۸] أو التفصيل بين القضاء حيث قالوا فيه
بالإجزاء وبين الأداء فحكموا بعدم الإجزاء فيه.
وقد ذكرنا هنالك أيضاً بأنّ القول بالتفصيل في المقام لا أساس له، ولذا ذهب معظم الفقهاء المتأخّرين إلى عدم الإجزاء؛
[۲۹] [۳۰] [۳۱] [۳۲] لأنّ الصحّة إنّما تنتزع عن مطابقة العمل للمأمور به، فإذا فرض عدم مطابقته حكم ببطلان العمل، والحكم بإجزاء غير الواقع عن الواقع يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه في المقام.
وقد يقال بأنّ الإجزاء هو المطابق للقاعدة، واستدل عليه بوجوه استعرضها السيد الخوئي
[۳۳] وناقش فيها بما مفاده:
الوجه الأوّل:
أنّ انكشاف الخلاف إذا كان بقيام حجّة معتبرة على الخلاف- لا علم بكون الاجتهاد السابق على خلاف الواقع- فالاجتهاد السابق كاللّاحق، فكما يحتمل أن يكون الاجتهاد الثاني مطابقاً للواقع، كذلك يحتمل أن يكون الاجتهاد الأوّل كذلك فهما متساويان، وإن كان على المجتهد وعلى مقلّديه أن يطبقوا أعمالهم على الاجتهاد اللّاحق دون السابق.
وهذا لأنّ الاجتهاد اللّاحق لا يكشف عن عدم حجّية الاجتهاد السابق في ظرفه؛ لأنّ انكشاف الخلاف في الحجّية أمر غير معقول، بل هو يسقط السابق عن الحجّية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه على حجيته في ظرفه، وعليه فالتبدل في الحجّية من التبدل في الموضوع، ومعه لا وجه لبطلان الأعمال المتقدمة المطابقة مع الاجتهاد السابق؛ لكونها صادرة على طبق الحجّة الفعلية في زمانها.
ويرد عليه: إنّ الدعوى المتقدّمة وإن كانت صحيحة في نفسها إلّا أنّ الإجزاء في المقام لا يترتب عليها بوجه؛ وذلك لأنّ قيام الحجّة الثانية وإن كان لا يستكشف به عدم حجّية الاجتهاد الأوّل في ظرفه، إلّا أنّ مقتضى الحجّة الثانية ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من الابتداء؛ لعدم اختصاصه بعصر دون عصر، إذاً العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل
لأنّه مقتضى الحجّة الثانية، ومعه لا بد من إعادته أو قضائه.
واحتمال المخالفة مع الواقع وإن كان تشترك فيه الحجّتان، إلّا أنّ هذا الاحتمال يلغى في الحجة الثانية حسب أدلّة اعتبارها، ولا يكفي في الاولى لسقوطها عن الاعتبار. ومجرد احتمال المخالفة يكفي في الحكم بالاعادة أو القضاء؛ لأنّه لا مؤمّن معه من العقاب، وحيث أنّ العقل مستقل بلزوم تحصيل المؤمن فلا مناص من الحكم بوجوب الإعادة على طبق الحجّة الثانية؛ لأنّ بها يندفع احتمال العقاب.
وأمّا القضاء فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ مقتضى الحجّة الثانية مخالفة ما أتى به المكلّف على طبق الحجّة السابقة للواقع وبطلانه، ومعه يصدق فوت الفريضة وهو يقتضي وجوب القضاء.
الثاني:
إنّ الأحكام الوضعية- الأعم مما في موارد المعاملات بالمعنى الأعم والمعاملات بالمعنى الأخص- إنّما تتعلّق بحسب الغالب على الأجسام والموضوعات الخارجية، ومن الظاهر أنّ الجسم الخارجي لا معنى لقيام المصلحة به حتى تكون الأحكام الوضعية ثابتة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فلا مناص من أن تكون تابعة للمصالح في جعلها واعتبارها، فإذا أدت الحجّة- مثلًا- إلى أنّ المعاطاة مملّكة أو أنّ الصيغة بغير العربية كافية في العقود، فقد وجدت المصلحة في جعل الملكية في المعاطاة أو الزوجية في العقد غير العربي وهكذا.
فإذا قامت الحجّة الثانية على أنّ المعاطاة مفيدة للاباحة أو أنّ العربية معتبرة في الصيغة، لم يستكشف بذلك أنّ الملكية في المعاطاة أو الزوجية في العقد الفارسي مثلًا غير متطابقين مع الواقع، وذلك لأنّ الأحكام الوضعية لا واقع لها سوى أنفسها، والمفروض أنّها تتحقق بقيام الحجّة الاولى، فلا يستكشف بسببها أنّ جعل الملكية في المعاطاة لم يكن على وفق المصلحة؛ إذ لو لم تكن هناك مصلحة تدعو إلى جعلها واعتبارها لم يمكن للشارع أن يعتبرها بوجه.
نعم، يستكشف بالحجّة الثانية أنّ المصلحة من لدن قيامها إنّما هي في جعل الاباحة في المعاطاة لا في جعل الملكية، أو أنها في جعل الزوجية في العقد العربي لا الفارسي، فقيام الحجّة الثانية على الخلاف إنّما هو من باب التبدل في الموضوع وليس من باب انكشاف الخلاف في السابقة باللّاحقة. فلا مناص من الالتزام بالإجزاء في الأحكام الوضعية.
وأمّا الأحكام التكليفية فهي وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ويتصور فيها كشف الخلاف، إلّا أنّ الحجّة الثانية إنّما تتصف بالحجّية بعد انسلاخ الحجّية عن السابقة- بموت المجتهد أو بغيره من الأسباب- فالحجّة الثانية لم تكن بحجة في ظرف الحجّة السابقة، وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحيل أن تكون الحجة المتأخرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة عليها بزمان الصادرة على طبق الحجّة السابقة.
نعم، هي تكون مؤثرة بالاضافة إلى الأفعال التي يصدرها المكلّف بعد اتصاف الثانية بالاعتبار؛ لأنّها لو لم تكن مطابقة معها بطلت. أمّا الأعمال الصادرة قبل اتصافها بالحجّية فلا يعقل أن تكون مؤثرة فيها بوجه؛ لأنّ حجّيتها حادثة وليس لها وجود في ظرف صدور الأعمال المتقدّمة ليجب إعادتها أو قضاؤها طبقاً للّاحقة.
وعليه فلا مناص من الالتزام في الأحكام التكليفية أيضاً بالإجزاء.
والجواب عنه: أمّا في الأحكام الوضعية فإنّها وإن كانت تابعة للمصالح في جعلها ولا واقع لها إلّا أنفسها، ولا يتصور فيها انكشاف الخلاف بعد تحقّقها، إلّا أنّ الكلام في أنّها هل تحقّقت من الابتداء أم لم تتحقّق، وأنّ المعاطاة الصادرة في الزمان المتقدم هل أفادت الملكية أم لا؟ حيث أنّ المكلّف بعد سقوط الحجّة السابقة عن الحجّية واتصاف الثانية بها- الدالّة على إفادة المعاطاة للاباحة- يشك في أنّ الملكية هل حصلت بالمعاطاة الصادرة منه أم لم تحصل، والحجّة الثانية تكشف عن عدم حصول الملكية من الابتداء؛ لأنّها تخبر عن عدم جعل الملكية بسبب المعاطاة في الشريعة؛ لعدم الفرق في مدلولها بين الزمان السابق واللّاحق. وعليه فحال الأحكام الوضعية حال الأحكام التكليفية بعينها، ولا تختص الأحكام الوضعية بوجه.
وأمّا الأحكام التكليفية فإنّ المكلّف بعد ما سقطت الحجّة السابقة عن حجّيتها واتصفت الثانية بالاعتبار يشك في وجوب إعادة الأعمال التي أتى بها على طبق الحجّة السابقة أو قضائها؛ إذ لا علم له بمطابقتها للواقع، وحيث لم يحرز مطابقتها إحرازاً وجدانياً، فلا بد من أن يحرزها بالحجّة التعبدية، وليست الحجّة عليه هي السابقة لسقوطها عن الاعتبار، وليس له أن يعتمد عليها بعد قيام الحجّة الثانية، فيتعين أن تكون هي الحجّة المتأخّرة؛ لاعتبارها في حقّه، وبما أنّها تدل على بطلان الحجة الاولى وعدم كونها مطابقة مع الواقع، فيجب إعادتها أو قضاؤها.
وما افيد في هذا الوجه من أنّ الحجّة المتأخّرة لا يعقل تأثيرها في الأعمال المتقدمة عليها، يرد عليه نقضاً: بما إذا فرضنا رجلين فاسقين تابا واتصفا بالعدالة، فشهدا على ملكية شيء لشخص منذ اسبوع، أو بنجاسته من أوّل الشهر الماضي، أو بزوجية امرأة من السنة الماضية، فهل ترد شهادتهما؟ نظراً لما ذكر في الوجه من أنّ الشهادة المتأخّرة عن تلك الامور لا يعقل أن تؤثر في الامور السابقة عليها.
وحلّاً: إن كان المراد من أنّ الحجّة المتأخّرة لا يعقل تأثيرها في الأعمال السابقة هو أنّها لا تؤثر في بطلانها ولا يقلب الصحيح باطلًا فلا ينبغي التأمل في صحّته، بل الأمر كذلك حتى في الحجّة المتقارنة فضلًا عن المتأخّرة؛ وذلك لأنّ المدار في الصحة والبطلان إنّما هو مطابقة المأتي به مع الواقع وعدمها دون الحجّة المقارنة أو المتأخّرة.
وإن اريد به أنّ الحجّة المتأخّرة غير مؤثرة في الأعمال المتقدّمة ولو بالكشف عن مطابقتها مع الواقع وعدمها فهو أمر مخالف للوجدان؛ لأنّ مدلول الحجّة المتأخّرة غير مختص بعصر دون عصر.
فالحجّة المتأخرة تكشف عن بطلان الأعمال السابقة ووجوب اعادتها أو قضائها لعدم مطابقتها مع الواقع.
الثالث:
أنّ قضاء العبادات السابقة- على كثرتها- أمر عسير وموجب للحرج على المكلّفين وهما (العسر والحرج) منفيان في الشريعة المقدسة؛ وذلك لأنّ العمل طبق الحجّة السابقة قد يطول وقد يستغرق أكثر العمر، كما إذا عدل عن فتوى مقلّده بموت أو بغيره من الأسباب المسوّغة في أواخر عمره، وقلّد مجتهداً يرى بطلان أعماله المتقدّمة، ولا شبهة في أنّ قضاء كل تلك الأعمال أمر حرجي.
وفيه: أنّ هذا الوجه لو تمّ فإنّما يتم في القضاء ولا يأتي في الاعادة داخل الوقت؛ لأنّه في مثل الصلاة إذا عدل إلى فتوى المجتهد الذي يرى بطلانها- ولم يفت وقت الصلاة- لم يكن في إعادتها حرج بوجه.
نعم، قد يتحقّق الحرج في الحج لو قلنا بوجوب اعادتها والاتيان به مطابقاً لفتوى المجتهد الثاني.
كما أنّه قد ذكر في محلّه أنّ الحرج كالضرر المنفيين في الشريعة المدار فيهما إنّما هو على الحرج والضرر الشخصيين لا النوعيين. والحرج الشخصي أمر يختلف باختلاف الموارد والأشخاص.
فكلّ مورد لزم فيه من الحكم بوجوب الاعادة أو القضاء حرج على المكلّف، فلا مناص من أن يلتزم بعدم وجوبهما، كما إذا لزم منه وجوب قضاء العبادة خمسين سنة مثلًا.
وأمّا الموارد التي لا يلزم فيها من الحكم بوجوبهما حرج على المكلّف فلا مقتضي للحكم بعدم وجوب الاعادة أو القضاء، كما إذا بنى على أنّ التيمم ضربة واحدة فتيمم وصلّى ثمّ عدل عن ذلك غداً، فبنى على أنّه ضربتان، فمن الواضح أنّ قضاء عبادة يوم واحد ممّا لا عسر فيه ولا حرج، ومعه لا موجب لنفي وجوب الإعادة أو القضاء.
الرابع:
دعوى الإجماع على أنّ العمل المأتي به على طبق الحجّة الشرعية لا تجب اعادته ولا قضاؤه إذا قامت حجّة اخرى على خلافها. نعم لا إجماع على الإجزاء في الأحكام الوضعية عند بقاء موضوعها إلى ظرف الحجّة المتأخّرة، كما إذا ذبح حيواناً بغير الحديد- لجوازه على رأي مقلّده- ثمّ عدل إلى فتوى من لا يرى جوازه والذبيحة بحالها، أو انّه اشترى داراً بالمعاطاة ولا يرى المجتهد الثاني انتقال البيع بها لاشتراطه الصيغة في صحته إلى غير ذلك من الموارد.
ويجاب عنه: أنّ الإجماع المدعى لو كان محصّلًا لم نكن نعتمد عليه- لإمكان استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدل بها في المقام فلا يكون تعبدياً كاشفاً عن رأي الإمام عليه السلام- فكيف به إذا كان إجماعاً منقولًا بالخبر الواحد، وكيف يمكن استكشاف قوله عليه السلام في المقام ولم يتعرض أكثر الأصحاب للمسألة ولم يعنونوها في كلماتهم؟! الخامس:
قيام سيرة المتشرعة على عدم وجوب الاعادة أو القضاء في موارد العدول والتبدل في الاجتهاد، حيث لم يعهد أن يعيد أحد أو يقضي ما أتى به من العبادات طيلة حياته إذا عدل عن رأيه أو عن فتوى مقلّده، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة، فلا مناص من الالتزام بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء عند قيام حجّة على الخلاف.
وفيه: إنّ موارد قيام الحجّة على الخلاف وبطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجّة السابقة- كما إذا كانت فاقدة لركن من الأركان- من القلّة بمكان، وليست من المسائل عامة البلوى ليستكشف فيها سيرة المتشرعة وأنّهم بنوا على الإجزاء في تلك الموارد أو على عدمه.
على أنّا لو سلّمنا استكشاف السيرة بوجه فمن أين يمكننا احراز اتصالها بزمن المعصومين عليهم السلام، ومن الممكن أن تكون السيرة مستندة إلى فتوى جماعة من الفقهاء.
ولو أنّ المسألة كانت عامة البلوى في عصرهم عليهم السلام لسئل عن حكمها ولو في رواية واحدة، وحيث لم يشار إلى المسألة في شيء من النصوص نستكشف بذلك أنّ كثرة الابتلاء بها حدث في الأزمنة المتأخّرة عن عصرهم عليهم السلام، فالسيرة على تقدير تحقّقها غير محرزة الاتصال بعصرهم ولا سبيل معه إلى إحراز الامضاء من قبلهم عليهم السلام.
إذاً يترتب على ما تقدّم أنّ مقتضى القاعدة وجوب الإعادة أو القضاء عند قيام الحجّة على الخلاف، اللّهم إلّا في الصلاة إذا كان الإخلال بغير الوقت والقبلة والركوع والسجود والطهور وذلك لحديث (لا تعاد) بناءً على شموله للجاهل القاصر أيضاً.
أجفان (انظر: جفن)
المراجع [تعديل]
المصدر [تعديل]
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۲۶۴-۲۷۶.