الإجزاء في الأصول
ثانياً- مسألة الإجزاء في اصول الفقه:
توضيحاً للمسألة يقال: إنّ مقتضى القاعدة الأولية في كل أمر عدم تحقّق امتثاله بغير متعلقه، وهذا ما يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء، كما لو قال المولى: اعتق رقبة، فلا يسقط الأمر إلّا بعتق الرقبة، ولا يكفي- مثلًا- توزيع ثمن الرقبة على الفقراء؛ فإنّ توزيع الثمن ليس هو المأمور به، فاسقاطه للأمر يحتاج إلى دليل؛ إذ لو كان مسقطاً لكان من المناسب تقييد الأمر بعدمه، بأن يقال: يجب عتق الرقبة إن لم يوزّع ثمنها، وحيث لم يقيد بل أطلق، كان ذلك دليلًا على عدم إجزاء غير العتق.
ولازم هذه القاعدة عدم إجزاء الوظيفة الظاهرية أو الاضطرارية عن امتثال الأمر الواقعي، ولا يسقط الأمر الواقعي إلّا بالاتيان بالمأمور به الواقعي.
إلّا أنّه يدعى الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات استناداً إلى ملازمة عقلية، إذ قد يقال بأنّ الأمر الاضطراري أو الظاهري يدل دلالة التزامية عقلية على إجزاء متعلّقه عن الواجب الواقعي، على أساس وجود ملازمة بين جعله وبين نكتة تقتضي الإجزاء، وهذا يمكن بيانه فيما يأتي:
لا إشكال في أنّ المكلّف لو أتى بما هو مأمور به- سواء كان مأموراً بالأمر الواقعي الاختياري أو الاضطراري أو الظاهري- يسقط ذلك الأمر قطعاً، فمن كان مأموراً بالوضوء وأتى به أو كان مأموراً بالتيمم فأتى به سقط الأمر الاختياري الواقعي في الأوّل، والأمر الاضطراري في الثاني، وعليه لا يجب اتيانه ثانياً- وهذا أمر عقلي- لأنّه امتثال بعد امتثال وهو محال لاستلزامه المعلول بلا علة، إذ الامتثال معلول للأمر، وبعد الامتثال الأوّل لا يبقى أمر كي يصدق الامتثال. وهذا مما لا إشكال فيه.
إنّما الاشكال في ما إذا اختلف الأمران كما لو كان أحدهما واقعياً اختيارياً والآخر اضطرارياً، أو واقعياً والآخر ظاهرياً.
فيقع البحث هنا في مرحلتين، إحداهما: في إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن الاختياري الواقعي.
والثانية: في إجزاء اتيان المأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي.
أمّا الاولى (دلالة الأوامر الاضطرارية على الإجزاء عقلًا)، كما لو تعذّر الواجب الأصلي على المكلّف فامر بالميسور اضطراراً، كالفاقد للماء يشرع في حقّه التيمّم، أو العاجز عن القيام تشرع في حقّه الصلاة من جلوس.
وهنا يأتي الكلام في ما لو تحققت القدرة على الوضوء أو القيام، فهل تجب الإعادة أو لا؟ يقال: تارة يكون الأمر الاضطراري ثابتاً بمجرد عدم التمكّن في أوّل الوقت ويعبر عنه بجواز البدار، واخرى يكون مقيّداً باستمرار العذر في تمام الوقت.
والقاعدة تقتضي في الحالة الاولى عدم وجوب الإعادة؛ لأنّه مقتضى جواز البدار المستفاد من الأمر الاضطراري حتى لمن يعلم بارتفاع عذره آخر الوقت، فلو لم يكن المكلّف قادراً على الصلاة مع الوضوء أو القيام، وبادر إلى الصلاة مع التيمم أو الجلوس في أوّل الوقت ثمّ ارتفع العذر قبل انتهاء الوقت، فلا تلزمه الاعادة؛ إذ لو أتى المكلف بالصلاة جالساً أو مع التيمم كانت صلاته مصداقاً للواجب الاضطراري، حتى مع ارتفاع عذره في آخر الوقت، ولازم ذلك كفاية الصلاة العذرية التي يأتي بها أوّل الوقت.
وأمّا إذا كان الأمر الاضطراري مقيّداً باستمرار العذر في تمام الوقت، فتارة يصلّي المكلّف في أوّل الوقت ثمّ يرتفع عذره قبل انتهاء الوقت ويصير متمكناً من الصلاة الاختيارية، ولازمه بطلان الصلاة العذرية التي أتى بها؛ إذ أنّ صحتها مشروطة باستمرار العذر والفرض عدم استمراره، ومع بطلانها لا تقع مجزية عن الصلاة الاختيارية.
وأمّا إذا بقي الحدث مستمراً فالبحث عن وجوب الإعادة لا معنى له؛ لفرض عدم ارتفاع العذر داخل الوقت. نعم، يرد البحث في وجوب القضاء والاتيان بالصلاة الاختيارية بعد انقضاء الوقت وعدمه، حيث إنّ مجرد الصلاة العذرية داخل الوقت لا يمكن أن يفهم منه اشتمالها على تمام مصلحة الصلاة الاختيارية ليثبت الإجزاء، بل اثباته يحتاج إلى دليل خاص.
هذا ولكن ذلك إنّما يصح إذا لم يكن الواجب وهو الصلاة في الوقت بنحو وحدة المطلوب، بل كان بنحو تعدّد المطلوب بحيث كان الأمر القضائي نفس الأمر الأوّل لا أمراً جديداً، وإلّا كان من الشك في الأمر الجديد.
هذا مضافاً إلى أنّ نفس دليل الأمر بالفعل الاضطراري داخل الوقت دالّ باطلاقه أو بالملازمة العرفية أو بظهور لسانها في الكفاية على الاجتزاء، وعدم وجوب القضاء ثانياً خارج الوقت خصوصاً في التيمّم، فقد يستفيد الفقيه من حديث «التيمّم أحد الطهورين»،
[۱] [۲] وحديث «يكفيك الصعيد عشر سنين»
[۳] الإجزاء وعدم وجوب الاعادة خارج الوقت واشتماله على تمام المصلحة كالوضوء.
[۴]
وأمّا المرحلة الثانية (دلالة الأوامر الظاهرية على الإجزاء) كما لو دلّت الأمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة مثلًا، ثمّ اتضح الخلاف، وأنّ الواجب واقعاً هو الجمعة. أو إذا شهد الثقة بطهارة الثوب فصلّى فيه المكلّف، ثمّ اتضحت نجاسته واقعاً. فهنا يقع الكلام في أنّ الوظيفة الظاهرية التي أتى بها المكلّف طبقاً للحجة الشرعية هل تجزي عن الوظيفة الواقعية بلا حاجة إلى قيام دليل خاص على الإجزاء، أو يحتاج الإجزاء في كل مورد إلى دليل خاص، وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الإجزاء.
والكلام في المسألة تارة يكون في فرض انكشاف مخالفة الحكم الظاهري للواقع بالجزم واليقين، واخرى في فرض تبدل الحكم الظاهري.
وعلى الأوّل قيل بأنّ مقتضى الأصل والقاعدة هو عدم الإجزاء؛ لأنّ الحكم الظاهري لا يرفع الحكم الواقعي، فمع انكشاف عدم امتثاله مع فعليته بحسب الفرض يجب لا محالة الاعادة والقضاء.
وهناك من قال بالتفصيل في الإجزاء في بعض الأنحاء وعدمه في أنحاء اخرى، وأهم ما ذكر في هذا المقام:
۱- ما ذكره المحقق الخراساني
[۵] واختاره ووافقه فيه المحقق الاصفهاني،
[۶] حيث فصّلا بين حكم ظاهري ثبت بلسان جعل الحكم المماثل للواقع كأصالة الطهارة وأصالة الحل، وحكم ظاهري
ثبت بلسان إحراز الواقع، ففي الأوّل ذكرا بأنّ مقتضى القاعدة الإجزاء بخلاف الثاني، كما لو صلّى المكلّف مع أصالة الطهارة ثمّ انكشف الخلاف، فهنا لا تجب الإعادة؛ لأنّ قاعدة الطهارة تثبت طهارة جديدة مغايرة للطهارة الواقعية تسمّى بالطهارة الظاهرية، ولازم هذا حصول توسعة في الدليل الدال على شرطية الطهارة في الصلاة ليشمل الطهارة الواقعية والظاهرية، وعليه لا يلزم إعادة الصلاة بعد انكشاف النجاسة واقعاً.
أمّا لو كان المستند لاحراز الطهارة هو خبر الثقة فتجب الإعادة؛ لأنّ خبر الثقة لا يجعل طهارة ظاهرية جديدة مغايرة للطهارة الواقعية، وتوسع دائرة الشرطية إلى الطهارة الظاهرية، بل إنّ خبر الثقة يخبر عن الطهارة الواقعية ويحاول ايصالنا لها من دون جعل طهارة جديدة.
وقد نوقش هذا التفصيل بمناقشات عديدة ذكرت في محلّه في اصول الفقه.
۲- التفصيل بين القول بالسببية في حجّية الأحكام الظاهرية وبين القول بالطريقية، فعلى الأوّل يقال بالإجزاء دون الثاني.
حيث يقال بأنّ الشارع المقدس حينما جعل الأمارة حجّة لا بد وأن يفرض صيرورتها سبباً لحدوث المصلحة في مؤداها، فإذا أدّت إلى وجوب الظهر مثلًا، فمؤداها هذا (وجوب الظهر) لا بد من حدوث المصلحة فيه، وإلّا كان جعل الحجّية لها من قبل الشارع قبيحاً؛ لأنّه يوجب تفويت مصلحة الواقع، ومعه يلزم إجزاؤها لعدم الفرق بينها وبين الجمعة في الوفاء بالمصلحة.
وهذا المسلك القائل بكون الامارة سبباً لحدوث المصلحة في مؤداها هو المعروف بمسلك السببية، وقد نوقش بأنّ التمسك به يستلزم التصويب، كما أنّ الاحتمالات الاخرى التي ذكرها الاصوليون في محله في حجّية الأمارات أو الأصل كلها لا تثبت الإجزاء، وما يثبته منها يستلزم التصويب.
قال السيد الشهيد الصدر: «ويرد على ذلك (إثبات الإجزاء بمسلك السببية) أوّلًا:
إنّ الأحكام الظاهرية أحكام طريقية تنشأ من مصالح وملاكات في متعلّقاتها بل من
نفس ملاكات الأحكام الواقعية... ولو كانت الأحكام الظاهرية ناشئة من مصالح وملاكات على ما ادعي للزم التصويب؛ إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهرية بنفس ملاك الواجب الواقعي يستحيل أن يبقى الوجوب الواقعي مختصاً بمتعلّقه الأولي، بل ينقلب لا محالة ويتعلّق بالجامع بين الأمرين، وهذا نحو من التصويب.
وثانياً: إذا سلّمنا أنّ ما يفوت على المكلّف بسبب الحجّة الظاهرية من مصالح لا بد أن تضمن الحجّة تداركه، إلّا أنّ هذا لا يقتضي افتراض مصلحة إلّا بقدر ما يفوت بسببها، فإذا فرضنا انكشاف الخلاف في أثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجة إلّا فضيلة الصلاة في أوّل وقتها مثلًا، لا أصل ملاك الواقع لإمكان استيفائه، وهذا يعني أنّ المصلحة المستكشفة من قبل الأمر الظاهري إنّما هي في سلوك الأمارة والتعبد العملي بها بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلّف بهذا السلوك، وليست قائمة بالمتعلق وبالوظيفة الظاهرية بذاتها، فإذا انقطع التعبد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد المصلحة، وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكية، وعليه فلا موجب للإجزاء عقلًا.
نعم، يبقى إمكان دعوى الإجزاء بتوهم حكومة بعض أدلّة الحجّية (كقاعدة الطهارة) على أدلّة الأحكام الواقعية (كشرطية الطهارة للصلاة) وتوسعتها لموضوعها... وهو إجزاء مبني على الاستظهار من لسان دليل الحجّية ولا علاقة له بالملازمة العقلية».
[۷]
هذا كلّه في ما إذا انكشف الخلاف بالجزم واليقين.
أمّا إذا انكشف خلاف الحكم الظاهري بالتعبد، فتارة يكون هذا الانكشاف بأمارة مثبتة لجميع اللوازم، واخرى يكون بأصل عملي.
فإذا كان انكشاف الخلاف بالأمارة، كما إذا أفتى المجتهد بوجوب الجمعة بالاستصحاب، ثمّ عثر على رواية معتبرة تدل على وجوب الظهر تعييناً، فالصحيح
عدم الإجزاء ولزوم الاعادة والقضاء؛ لأنّ ذلك مدلول التزامي للأمارة نفسها على كل تقدير.
وإذا انكشف الخلاف بالأصل فهناك صور عديدة، أهمها ما يلي:
أ- أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب، فالقاعدة تقتضي عدم الإجزاء سواء كانت الشبهة موضوعية، كمن توضأ فشكّ في أثناء وضوئه وبنى على قاعدة التجاوز فيه، ثمّ ظهر له بحجّة اخرى- اجتهاداً أو تقليداً- عدم جريانها في إجزاء الوضوء، فجرى في حقّه استصحاب عدم الاتيان بالجزء المشكوك من وضوئه، فيحكم بوجوب الاعادة داخل الوقت وبوجوب القضاء خارجه.
أو كانت الشبهة حكمية، كما لو فرض ثبوت وجوب الظهر عليه بدليل اجتهادي، ثمّ عدل عن ذلك ووجد خللًا في مدركه فاستصحب بقاء وجوب الجمعة الثابت في عصر الحضور مثلًا، ففي الوقت يجب الاتيان بها وفي خارجه يجب القضاء.
ب- أن ينكشف الخلاف بأصالة الاشتغال، سواء كان بملاك منجّزية العلم الإجمالي، كما إذا عدل عن رأيه بوجوب الظهر مثلًا تعييناً فحصل له علم اجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة، أو حصل له العلم الإجمالي بوجوب القصر أو التمام في من عمله يتوقّف على السفر، بعد أن كان يرى وجوب التمام عليه، فهنا لا إشكال في وجوب الاحتياط قبل العمل، وأمّا إذا لم يصلّ داخل الوقت إلّا إحداهما حتى خرج الوقت، فهنا يقال بالقضاء احتياطاً على بعض الوجوه.
وكذلك لو حصل له الانكشاف بعد أن صلّى الجمعة مثلًا، فقد يقال بوجوب الظهر احتياطاً أداءً داخل الوقت وقضاءً خارجه.
أو كان على أساس الدوران بين الأقل والأكثر- بناءً على أصالة الاشتغال فيه من باب الشك في حصول الغرض وسقوط الوجوب- وحكمه كالسابق، قال السيد الشهيد الصدر بعد أن تعرّض لهذه الصور بالبحث: «وقد تحصّل من مجموع ما تقدّم في هذا البحث أنّه متى ما كان لدليل الأمر الواقعي إطلاق فمقتضى القاعدة عدم إجزاء الحكم الظاهري، ولزوم الاعادة داخل الوقت والقضاء خارجه في غالب الفروض، وبنحو الاحتياط في بعضها، ما لم يرد مخصّص لمقتضى القاعدة، أي لإطلاق دليل الحكم الواقعي، كما ورد في الصلاة حديث «لا تعاد»، أو لم يكن دليل الحكم الواقعي مطلقاً كما في الأدلّة اللبّية على بعض الأجزاء والشرائط، والتي قد لا تشمل حالة تبدّل الحكم والوظيفة اجتهاداً أو تقليداً».
[۸]
المراجع [تعديل]
المصدر [تعديل]
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۲۵۷-۲۶۴.